Uncategorizedفلسفة

SW094 كيف تكشف المغالطات 2

كيف تكشف المغالطات 2

مقدمة

لقد طال انتظار هذه الحلقة، بعد أن قدمت حلقتين قديمتين عن المغالطات في الجدل المنطقي وكان لهما صدا إيجابيا، نعود مرة أخرى مع حلقة جديدة تساهم في نشر وعي النقاش أو وعي الجدل.

من المهم أن أذكر أن معرفة المغالطات تساهم في فهم كيف يمكن لشخص أن يمرر على الآخرين بعض الأفكار الخاطئة بلا دراية منهم ولا انتباه. فيتم تناقل معلومات خاطئة أحيانا تكون متعمدة،  وأحيانا بحسن نية، فإذا ما عرفت كيف تكتشف هذه المغالطات ستكون جرعة التطعيم لديك كافية لدرئك من هذه الأفكار الخاطئة. وستكون جاهزا للمناقشة بأسلوب أفضل، وتصل إلى نتائج أكثر دقة.

أنصح بمراجعة المغالطات السابقة لأهميتها الكبيرة، وأنصح بالعودة لها بين الحين والآخر، لأننا ننساها في العادة فتضعف القدرة على اصطيادها، وأنصح كذلك أن تستخدم فهمك للمغالطات كتمرين يومي، فحينما تستمع إلى نقاشات الآخرين حاول أن تتصيد هذه الأخطاء وأنت تستمع للنقاش بينك وبين نفسك، لا يعني بالضروة أن تقفز في النقاش لتفضح أخطاء الآخرين، فلربما ذلك سيغيض غيرك، ولكن استخدمها بحكمة وفي الوقت المناسب.

لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!

مغالطة “التوسل بالسلطة أو بالمرجعية” (Argument from Authority)

مغالطة “التوسل بالسلطة أو بالمرجعية” هي مغالطة يقع فيها الكثير من الناس، وغالبا ما تستخدم لإسكات الآخرين من غير الحاجة للرجوع للأدلة. فإذا ما كنت تتحدث في موضوع معين يقال لك: “ولكن السلطة الفلانية أو المرجع الفلاني قال غير ذلك،” فتسكت لأن الشخص ذو السلطة أو المرجعية يقول خلاف ما تذكر، وأحيانا تستخدم هذه المغالطة بالعكس، فيقال لك أن الشخص الذي تذكره ليست له مرجعية أو سلطة، فيعني ذلك أن أنه مخطئ.

لابد أن أنوه لنقطة مهمة، وهي أن كلمة السلطة والمرجعية لا أعني بهما المصطلحات الدارجة في مجتمعاتنا فقط، لا أقصد بالسلطة هنا سلطة البلد أو نفوذ الدولة فقط، ولا أقصد في المرجعية المرجعية الدينية فقط، بل الكلمتان شاملتان لأي شخص لديه سلطة أو مرجعية، فمن الممكن أن يكون شخصا (مثل عالم أو نجم في التمثيل أو رجل دين أو سياسي) أو محطة تلفزيونية (مثل سي إن إن أو قناة الديكسوفري)، أو مؤسسة أو شركة (مثل جوجل أو ماكنزي) وما إلى ذلك.

القاعدة العامة لهذه المغالطة: المرجع أ يعتقد أن ج صحيح. إذن ج صحيح. أو الشخص أ الذي هو ليس مرجعا  يعتقد ج صحيح، وبما أنه ليس بمرجع إذن ج خطأ.

شن: هل تعلمين يا طبقة، أن الفيتامين C إن أخذ بجرعات عالية يقضي على السرطان؟

طبقة: غير معقول، هل هناك دليل علمي على ذلك؟ مرض السرطان أنواع متعددة، فكيف للفيتامين سي أن يقضي عليها. لا أستطيع أن أصدق هذا الكلام من غير دراسات علمية.

شن: هل تعلمين من قال هذا الكلام؟

طبقة: من؟

شن: إنه العالم الكبير لاينس بولنج (Linus Pauling)، وهو الحائز على جائزتي نوبل، واحدة في الكيمياء، والثانية في السلام، لابد أن ما قاله صحيح.

 هذا النقاش الذي دار بين شن وطبقة مقتبس من معلومات حقيقة، لاينس بولنج كان عالما كبيرا جدا، وحاز على جائزتي نوبل، ويعد من كبار علماء الكيمياء وهو من أهم العلماء في القرن العشرين، وقد ادعى بقوة بتأثير الفيتامينات على صحة الجسم، ذكر أن الفيتامين C – إن أخذ بجرعات كبيرة – بإمكانه أن يشفي السرطان، ولكن هناك لغط كبير على الموضوع، والدراسات لم تصل إلى الحد الذي تثبت أو تنفي صحة تأثير الفيتامين C على السرطان، وانتقد الكثير من العلماء ما ذكره لاينس بولينج بتصريحه، وخصوصا أنه غير مختص بالسرطان. قد لا نعلم صحة أو خطأ لاينس، ولكن الفكرة الأساسية ليست إن كان ما ادعاه صحيحا أو خاطئا، الفكرة الأساسية أنه لا يمكن تأكيد صحة ما قاله لانيس لمجرد أنه حائز على جائزتي نوبل. صحة مثل هذا الموضوع تعتمد على التجربة العلمية المكررة والتي يتفق عليها مجموعة مع العلماء.

أو مثلا حينما تفتح القنوات التلفزيونية، وتجد أن ممثلا يمسك بفرشة أسنان، وبعد أن ينتهي من غسيل أضراسه ترى بريقا لامعا يموض من ضرسه الناصع البياض، ثم ينصحك باستخدم معجون أسنان من شركة كولجيت، الكثير من الناس تتجه لاستخدام هذا النوع من معجون الأسنان لأنها تأثرت بنجومية الممثل، من غير الانتباه إلى أن نجومية الممثل لا علاقة لها بحقيقة ما إذا كان معجون الأسنان هذا أفضل من غيره. فالممثل غير متخصص بصحة الأسنان، ولا المعجون كولجيت.

لابد أن ننتبه إلى أنه صحيح أن التوسل بالمرجع لا يعني بالضرورة صحة المعلومة، ولكن لا ننسى أن المختص يُعتمد على رأيه في يختص به، فهو ذو خبرة دقيقة في الموضوع الذي يعمل عليه، وهو متمرس فيه لفترة طويلة، فمثلا أنت تذهب للطبيب للعلاج بدلا من أن تعالج نفسك، أو أنت تذهب للمختص في الهندسة الإلكترونية ليصنع لك دائرة كهربائية، أو تتجه للعالم في البيلوجيا ليشرح لك كيف تعمل الخلية، وهكذا، المختص رأيه محترم فيما هو مختص فيه، ويمكنك أيضا الاعتماد على تصريحاته، ولكن لا يعني ذلك بالضروة أنه معصوم من الخطأ.

القصد الأساسي من مغالطة التوسل بالسلطة أو المرجعية، هو أن تدعي أن الرأي صحيح لمجرد صدوره من مرجع إن لم يكن مختصا بذلك العلم، فبذلك أن تستخدم سلطته الشخصية لإثبات صحة مبدأ معين، المشكلة أنه قد يكون ذلك المرجع مخطئا لأنه غير متخصص في المعلومات التي ذكرها، وكذلك قد يكون مخطئا أيضا عموما، لأنه إنسان غير معصوم. صحة المعلومة يجب أن تكون صحيحة بغض النظر عن المدعي، وإن كانت صحيحة فلا تحتاج لأن تعتمد على سلطة الشخص أو المرجعية لتثبيتها.

مغالطة التبسيط حتى السخف (Reductio Ad Absurdum)

التبسيط حتى السخف أو الاستحالة هي قاعدة منطقية صحيحة، وإن استخدمت بالشكل الصحيح يمكنها أن تفند معلومات خاطئة، ولكن المشكلة تحدث حينما يكون هناك استخدام خاطئ وشعبي لها. ماذا تعني هذه المغالطة؟ إنها تعني تحويل الجدلية المنطقية إلى نتيجة سخيفة أو مستحيلة بتبسيطها بحيث تثبت أن الجدلية خاطئة. لنأخذ مثالا بسيطا على الاستخدام الصحيح، ثم ننتقل للاستخدام الخاطئ لها.

شن: لقد صنعت روبوتا يستطيع أن يهزم أي منافس له في مصارعة الروبوتات.

طبقة: هل يعقل ذلك يا شن؟

شن: بالتأكيد، فالروبوت صنعته بدقة متناهية، ومن مواد غير قابلة للكسر، والطاقة التي تغذي الروبوت طاقة طويلة الأمد، وهو ذكي جدا، وهناك تفاصيل دقيقة أخرى تقنية سرية لا أريد أن أكشف عنها، ولكن من المؤكد أنه سيفوز على أي روبوت على الإطلاق.

طبقة: لو أن ما تقوله صحيح، وأن روبوتك رابح بأي حال من الأحوال، فذلك يعني أن لو صنعنا إثنان طبق الأصل منهما لما استطاع أي روبوت آخر أن يغلبهما، ولو أن ذلك صحيحا، فذلك يعني أنه لو أن الروبوتين  المتطابقين تباريا معا في مباراة، فإما أن يتعادلا، وهذا يعني أن جدلك خاطئ لأن روبوتك لم يغلب، وإذا تغلب أحدهما على الآخر فيعني ذلك أن أحدهما خسر، وأنت تدعي أن روبوتك حتما سيفوز، وبما أن كلاهما متطابقان، فيعني ذلك أن روبوتك يمكن التغلب عليه.

هذه الطريقة في تهشيم الجدل الذي طرحته طبقة إنما يعتمد على منطق التبسيط حتى الاستحالة، فما قامت به طبقة هو طرح مناقض للجدل المنطقي بحيث أصبح شيئا مستحيل الحدوث، فلا يمكن للروبوت أن يغلب آخر مطابق له، لأن أي خسارة لأي من الروبوتين هو نقض للمبدأ الذي طرحه شن. اختزلت طبقة الجدلية إلى تناقض، فربحت النقاش. وهذا يعد تحليلا منطقيا لا اعتراض عليه.

نحن نستخدم هذا الأسلوب في حياتنا اليومية، وكثيرا ما نستخدمه في بطريقة ساخرة، أسلوب مؤثر وقوي جدا، من غير أن نحس به، ولكن المشكلة أن الكثير من الاستخدامات الشعبية لا ترقى إلى النقض الفلسفي المنطقي، حتى وإن كانت تكسر حجج الطرف الآخر وتستسخف بآرائه، وتضحك الناس منه، ثم تسكته. حينما تحول القاعدة الفلسفية إلى سخرية وتهمل كل الأدلة حينها تصبح مغالطة.

لنأخذ بعض الأمثلة على هذا النوع:

شن: أنا لا أعتقد بنظرية التطور.

طبقة: لماذا؟

شن: لأنها لو كانت صحيحة لرأيت السمكة تتطور إلى سحلية، أو السحلية إلى قرد، أو القرد إلى إنسان، ولكني على مدى عمري كله لم أر هذا الشيء يحدث أمامي.

ما المشكلة في مثل هذا التحليل لشن؟ شن لم يكترث لأي دليل أو إثبات على نظرية التطور، وألغاها بافتراض كيفية عمل مختلفة للنظرية، ففند طريقته هو بالتفكير عن النظرية وليس النظرية ذاتها، فنظرية التطور، لا تفترض أن الحيوانات تنتقل من فصيلة إلى فصيلة خلال أعوام قليلة، ولا تفترض النظرية أن السمكة تتحول إلى سحلية، ولا السحلية إلى قرد، ولا القرد إلى إنسان، هنا قام شن بافتراض ما لم يكن موجودا إلا في مخيلته، وقام بتبسيطه واختزاله، ثم سخر من مبدأ التطور، الطريقة هي مؤثرة، ومن يستمع لشن ربما يعتقد أنه منطقي وصحيح، ولكن ما قام به ليس إلا مغالطة، وقد تُدرج هذه المغالطة أيضا تحت باب رجل القش، حيث أن شن لم يهاجم النظرية ذاتها، بل اخترع تصورا خاصا به عن النظرية (رجل القش)، ثم هجم على التصور، موهما طبقة بأنه هاجم النظرية.

حتى يصحح شن من طريقة التبسيط، عليه أن يعمل من خلال الفرضيات التي تقوم عليها مبادئ التطور، ثم يبسطها هي، ثم يبين التناقض، وبعد ذلك يفند النظرية. لاحظ الفرق بين نقاش الروبوتات ونقاش نظرية التطور، طبقة في الروبوتات استخدمت نفس افتراضات شن للوصول إلى تناقض، وتدرجت نقطة بنقطة، حتى وصلت إلى نقيض منطقي، أما في الحالة الثانية، شن أتى بافتراضات من عنده، وحتى أكون أكثر دقة، التفنيد الذي قامت به طبقة يمكن تحويله إلى قواعد رياضية بحتة في المنطق يمكن من خلالها تفنيد ادعاء شن، أما في نقاش نظرية التطور، لا يمكن استخدام القواعد الرياضية بنفس الطريقة.

مغالطة “البرهان من الجهل” (Argument from Ignorance)

شن: طبقة، هل تعتقدين أن العلم التجريبي يستطيع أن يفسر كل شيء؟

طبقة: لا أدري، قد يستطيع ان يفسر كل شيء، ولكني في الحقيقة لا أعرف الإجابة على هذا السؤال.

شن: ولكن أنت تعلمين أن العلم لم يُجِب على جميع الأسئلة بعد، وهناك الكثير من الأمور التي لم يستطع أن يكشف عنها إلى الآن وبوجود كل أدواته الهائلة، ألا يدل ذلك على أن العلم لن يستطيع أن يجيب على كل شيء.

طبقة: هل تستطيع أن تضرب مثلا على ذلك؟

شن: هل تعرفين ما هو الوعي؟

طبقة: نحن نعرف الوعي من خلال تجربنا الشخصية، ولكن “ما هو بالتحديد؟”، لا أظن أنني أعرف ذلك.

شن: صحيح، وكذلك العلم لا يعرف ما هو الوعي، فبكل التجارب التي أقامها، وحتى باستخدامه لعلم النفس، والبيولوجيا، وعلم الأعصاب، وغيرها من العلوم، إلا أنه لم يستطع أن يعرف ما هو، وهذا دليل على أن العلم غير قادر على تفسير كل شيء.

يحدث وأن الكثير من الناس تتناقش بهذه الطريقة، وأنا شخصيا أجد أن البعض يناقشني بنفس هذه الطريقة، ويعتمد على الإنطلاق من الجهل بالشيء لإثبات فرضية معينة، وهذه تعتبر مغالطة، فشن هنا لم يثبت أن العلم غير قادر على تفسير كل شيء، إنما أعتمد على جهل العلم بالشيء حاليا حتى يستدل على صحة فرضيته مستقبلا، صحيح أن العلم لم يعرف ما هو الوعي اليوم، ولكنه لا يعني أنه غير قادر على تفسير الوعي في المستقبل، غياب الدليل لا يعني أنه دليل الغياب.

ومن المهم أيضا أن نعرف أن القول بأنه “قد” يكتشف العلم الوعي، ويفسره تفسيرا جيدا في المستقبل،” لا يعني بالضرورة أيضا أن العلم قادر على ذلك، فقد نكتشف أن العلم غير قادر على تفسير الوعي، وقد يأتي بأدلة دقيقة تثبت عدم التمكن، فالجهل بالشيء لا يعطي معلومات لصالح أي من الطرفين، فكلا الطرفين ليست لديهم المعلومات الكافية للوصول إلى الدليل القاطع.

مثل هذه الإثباتات ليست إثباتات حقيقة، فلا هي تدل على أن العلم قادر، ولا تدل على أنه غير قادر، كلها تنطلق من الجهل. والانطلاق من الجهل لا يمكن الاعتماد عليه لتثبيت أي فكرة. انتبه من الأسئلة المستقبلية، كلها ملغومة، ولا تدل على شيء. ليس لأحد أن يجيب بدقة متناهية على الأسئلة المستقبلية، والكل يعتمد على الماضي لإضفاء تصوره عن المستقبل، فأنا من الممكن أن أقول أننا لم نكن نعرف وأصبحنا بفضل العلم عارفين، والبعض قد يستنجد في الماضي ليقول أن بعض العلماء كان يعتقدون أنهم شارفوا على الوصول إلى الحقائق النهائية، وإذا بهم يكتشفون أن الحقائق بئر عميق، كيف لنا أن نعرف؟ السبيل الوحيد لذلك هو أن لا نتوقف على المحاولة. وأن لا ندعي أن الدليل موجود باستخدام الجهل.

طبقة: “هل تستطيع أن تثبت أنه لا توجد أسماك في الطبقة العليا من الغلاف الجوي؟”

شن: “العلماء صعدوا إلى الفضاء الخارجي، ومروا بالطبقة العليا ولم يجدوا أي أسماك هناك.”

طبقة: “ولكن هل بحثوا في كل سم مكعب في الغلاف الجوي حتى على عدم وجودها؟”

شن: “لا طبعا.”

طبقة: “بما أنهم لم يثبوا بالدليل القاطع أن الأسماك لا تسبح في الطبقة العليا من الغلاف الجوي، إذن الأسماك موجودة هناك”

لاحظ أن هناك أمران آخران في هذه النقاش، وهما مرتبطان بمغالطة البرهان من الجهل، فبالإضافة لكوننا نجهل بعدم وجود دليل، لأن العلماء لم يمشطوا السماء شبرا شبرا، لقد نقلت طبقة ثقل الإثبات على شن، بدلا من أن تتحمل العبء هي بنفسها، فهي التي ادعت بوجود الأسماك، وهي المسؤولة عن إثبات وجودها هناك، فحينما تتناقش مع شخص إنتبه من نقل الثقل عليك، إذا ادعى أحدهم فرضية معينة، انتبه من أن يجعلك أنت تثبت خلاف ما يدعيه، لأنه سيستخدم مغالطة الجهل في النهاية.

الشيء الآخر، وهو أن الدليل على عدم وجود أسماك في الغلاف الجوي، لا يأتي بالضرورة من عدم رؤيتنا لها في الأجواء، فتركيز الاستدلال على طريقة واحدة قد لا يفي بالغرض، فمثلا من الممكن الاستدلال ببيولجيا الأسماء التي لا تستطيع أن تتنفس خارج الماء لفترات طويلة مثلا، أو من الممكن أن نقول أن أجسامها ليست بالخفة الكافية لكي تتعلق في السماء، وقد يكون وأن طبقة فعلا رأت أسماكا في الجو أثناء وجود إعصار جرفها من الماء، فالتبس عليها الأمر فاعتقدت أن الأسماك تطير وتساقطت من السماء، إذن، حينما تناقش أحدا، حاول أن تفكر في طرق أخرى لتفادي الإنحشار في زاوية واحدة.

مثل هذه الأمور أحيانا تحدث حينما يذكر لي البعض تطابق أحلامهم مع الواقع مثلا، أتذكر أني كنت جالسا في ديوانية، وذكر شخص أنه حلم عدة مرات بوفاة أشخاص من أقربائه، وإذا بهم يتوفون بعدها بعدة أيام، فيقول لي مثلا: “أن الحلم فعلا يتحقق، وهذا دليل على ذلك،” وحينما أصر على أن التزامن لا يعني التسبب أو الارتباط – فحلم الشخص بوفاة القريب لا يعني أن الأحلام أتت له لتنبؤه بالوفاة – يقول لي: “هل تستطيع أن تخبرني بالسبب إذن، لماذا حدث وأن توفي عدة أشخاص بعد أن حلمت بهم”، بطبيعة الحال أقول: “أنا لا أعرف الإجابة على ذلك، ليست لدي المعلومات الكافية لكي أجيب على الموضوع،” فتؤخذ إجابتي مباشرة على أنها تعني أن الأحلام أتت لتنبؤه بوفاة أقربائه لأني لم أستطع أن أثبت عكس ذلك.

كذلك، أتذكر أحد الأصدقاء قال لي أن الكثير من الأحيان يحدث وأنه يفكر في شيء، وإذا بهذا الشيء يتحقق، فمثلا كان يفكر – وهو جالس في مطعم – في أحد أصدقائه، وإذا بالصديق يأتي إليه ويسلم عليه، وقد حدثت له مثل هذه الأفكار عدة مرات، فافترض أن مثل هذه الأمور تحدث لأن الحدس أو قدرته على التنبؤ تأتيه بغتة، وحينما أقول له أنه قد يكون هناك تفسير آخر لتزامن مثل هذه الأحداث يقول لي: “حاول أن تفسرها، تفضل،” وبطبيعة الحال حينما لا تحدث هذه التجربة الشخصية أمامي لأراها بنفسي وبتجرد، لا أستطيع أن أجيب على مثل هذا السؤال، وإذا لم أعرف الإجابة، ينطلق الصديق من جهلي بالمعلومات إلى الاستدلال بصحة زعمه.

مغالطة كبيرة، جدا، وخصوصا أن هناك عدة احتمالات لحدوث مثل هذه الأحداث، ولم ينتبه لها صديقي، منها:

1. انتباه صديقي للحدث الذي تحقق وتركه باقي الأحداث التي لم تتحقق، فمثلا قد يفكر أو يحلم في الأصدقاء أو الأقرباء بين الحين والآخر، ولكن حينما يرى أو يتوفى من يفكر فيه يتأثر جدا بالموضوع، فيتذكر هذا الحدث ولا يتذكر كل المرات التي لم تتحقق أفكاره (وهذه مغالطة الانحياز التأكيدي، والانتقائية). التجارب الشخصية عادة ما تكون غير منضبطة، فلا يمكن تمييزها من العشوائية، فمثلا، لو أنه في كل مرة يفكر أو يحلم في شخص، وينتظر حتى يرى (لمدة محددة بالطبع) إن كان الشخص يظهر أمامه أو يموت، فيسجل عدد المرات التي ظهر ولم يظهر أمامه أو مات أو لم يمت الشخص الذي فكر فيه، عندئذ، بإمكانه حساب عدد مرات تحقق تبؤه بدقة، فقد يظهر وأنه مصيب 5% من المرات، ومخطئ 95%، وهذا سيعطيه الانطباع الصحيح عن إن كانت الأفكار أو الأحلام تتنبأ.

2. قد يكون وأن ذاكرته قد تأثرت، وهو لا يتذكر الحدث تماما، وهناك الكثير من الدراسات التي تبين كيف تتلوث الذاكرة بأفكار تحدث في المستقبل، لا بل الذاكرة ليست ثابتة وتتغير في كل مرة نتذكرها، وتتحول إلى معلومات جديدة عن ذكريات قديمة، فكيف يمكن الاعتماد على الذاكرة البحتة؟

وقد تكون هناك أمور أخرى يمكن أن تفسر الخطأ الذي يقع فيه المفترض أو المدعي، وكلها تحتاج إلى تجربة واضحة، لماذا لم أدع للاحتمال أنه قد يكون وأنه تنبأ في المستقبل؟ حينما نمر على جميع الاحتمالات، ونستطيع أن نثبت أن الحدث غير طبيعي، بعد ذلك، يستطيع أن يدعي أن الحدث خارق عن العادة، لماذا؟ هل تذكر ماذا كنت نصنع حينما يشتكي أحدهم من رؤية أشخاصا والحديث معهم؟ كنا نعتقد أنه ممسوس، أو أنه مجنون، أو أنه فعلا يرى أشخاصا، وأحيانا نعرضه للعذاب، والضرب، والعلاجات التقليدية المؤذية، اليوم بعض هذه الأمرض نحن نعرف تماما أنها أمراض عقلية، ومنها مرض الفصام، وبعد اكتشاف الفصام علميا استطعنا أن نعطي المريض حبة واحدة يوميا للتخلص من هذه الصور التي يراها، بذلك نبعد الأذى عنه هو، ومنه هو على أهله وأقربائه وأصدقائه. حينما نفسر الأمور بطريقة صحيحة نستطيع أن نستفيد منها لرفع المعاناة، وزيادة الازدهار لنا البشر.

أعود مرة أخرى للموضوع، وأذكّر أن لا تدع نفسك تنحشر في زاوية “إثبت العكس،” قد يوهمك أن هذه هي الطريقة الوحيدة لدحض الفكرة، أو أن عدم قدرتك على إثبات العكس يعني أن إدعاه صحيح. وإن قام بإثبات فرضيته من خلال عدم قدرتك على دحضها، أذكر له أن تلك لم تكن إلا مغالطة منطقية، وهي مغالطة البرهان من الجهل.

هذه كانت 3 مغالطات، وسنعود في المستقبل لذكر مغالطات أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى