فيزياءميكانيكا الكم

SW025 الميكانيكية الكمية 2

الميكانيكية الكمية 2

الميكانيكة الكمية 2

في المرة الماضية بدأنا بمشوار الميكانيكية الكمية، واليوم نتقدم في هذا العالم قليلا، لنرى علاقة الميكانيكية الكمية بعالمنا، ولنرى تأثيره على الماضي والحاضر والمستقبل، وسنقارن بين تفسير الميكانكية الكمية للواقع بالمقارنة مع الميكانيكية النيوتونية والنسبية، إن لم تستمع أو تقرأ موضوع الميكانيكة 1، فعليك التوجه للاستماع للحلقة الأولى حتى تتكون لديك فكرة بسيطة عن مبادئ هذا العالم الصغير، حتى تشكل صورة مبدئية للموضوع.

لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!

بعد أن اسس ماكس بلانك علم الميكانيكية الكمية من خلال تكوين فكرة إن الطاقة تأتي بكميات محددة، وبعدها استخدام آنيشتين نفس المبدأ لتشكيل صورة أفضل لماهية الضوء، حيث أنه أعطي صفتا الجسيم والموجة له، ومع الوقت اُكتشف أن الإلكترون أيضا لديه نفس الخاصية – خاصية ثنائية الموجة-جسيم، أتى العالم الضخم نيلز بور Niels Bohr [1]Niels Bohr ليحدد مسارا جديدا لتصور الذرة، فقبل بور الذرة لم تكن معالمها واضحة، حتى أن قبول الذرة لم يكن بذلك الحماس في ذلك الوقت، وكانت إحدى الصور للذرة أنها جسم وعلى هذا الجسم هناك إلكترونات تحيط به بالآلاف من غير أي حركة، وحتى الذين كانوا يعتقدون أن الذرة محاطة بإلكترونات تدور حولها كاستدارة الكواكب حول الشمس مثل إيرنست راذرفود Ernest Rutherford [2]Ernest Rutherford توقفوا عند مشاكل سقوط الإلكترونات إلى المركز في زمن قدره أقل من جزء من الثانية، فلن تصمد الذرة أبدا بسبب القوانين الكلاسيكية، ولكن باستعانة بور بفكرة الكم حدد مدارات محددة تدور فيها الإلكترونات حوالي النواة (البروتونات) بحيث لا يمكن أن تكون بينها أية مسارات أخرى، فالإلكترونات ليست حرة في أن تأخذ أي مدار حوالي الذرة كما هو في حالة الأرض حول الشمس، فبالإمكان تحريك الأرض لتدور بدائرة أكبر أو أصغر، ولكن عالم الذرة مختلف، الإلكترونات تدور حول النواة في مستويات محددة كما في قشرة البصل مثلا، فحينما يسلط عليها الضوء فإنها تمتص هذا الضوء وتصعد للمدار الأعلى، وحينما تنزل إلى مدار أدنى فإنها تصدر طاقة، طبعا مع الأخذ بعين الإعتبار أن حركة الإلكترون من الأسفل إلى الأعلى أو الأعلى إلى الأسفل تكون من غير أن تعبر المسافة بينهما، ولكنها تختفي من وتظهر في، كم لو كان سحرا. (سأخصص بودكاست كامل للذرة، وتاريخها). 

هايزنبرج استخدم الجبر الخطي والمصفوفات (في وقتها علم جديد) لمعالجة فكرة الذرة، اليوم الجبر الخطي يدرس في الجامعات كأي علم ثاني، ولكن في ذلك الوقت لم ينتشر هذا العلم ولا نظرية هايزنبرج بهذا الانتشار الواسع، وفي وقتها جاء إيروين شرودنجر Erwin Schrodinger [3]Erwin Schrodinger ، ليلقن هايزبرج وبور صفعة قوية، حيث أنه كان يتساءل إذا كان الإلكترون عنده خاصية الموجة-جسيم، فأين الموجة، ولماذا ركز بور وهايزنبرج فقط على الإلكترون الجسيم؟ فوضع قوانين تصف الإكترون بالموجة، وبدلا من أن يقفز الإلكترون من مدار إلى مدار من غير المرور فيما بينهما استطاع شرودينجر أن يجعل النقلة سلسة بتدرج موجي، فارتاح باقي العلماء لفكرة شرودنجر، ونالت قوانينه السهلة قبولا منهم، ولكن لم يكن ذلك مقبولا عند بور وهيزنبرج، فبدأت الحرب بينهما سواءا أكانت بالأوراق العلمية أو المؤتمرات أو النقاشات الشخصية،  ووصلت إلى حد الغضب والإحراج في بعض الأحيان، وكلٌ كانت له وجهة نظر، وكلا الجانبين أبدى التنقضات التي لا تستطيع قوانين الجانب الآخر حلها، فلا جسيم هايزنبرج ولا موجة شرودنجر فيهما الحل المتكامل.

هايزنبرج توصل أخيرا لإحدى القواعد الرئيسية للميكانيكة الكمية، وهي مبدأ الريبة Uncertainty Principle [4]Uncertainty Principle ، والتي تنص على أن الموقع للجسيم والزخم (لنقل السرعة) لا يمكن قياسهما بدقة متناهية بأي حال من الأحوال، تخيل لو أن سيارة تمر بسرعة 120 كيلومترا من أمام كاميرا المخالفات المرورية الموجودة على جادة الطريق، وفي ذلك الطريق أقصى حد للسرعة كان 80 كيلومترا في الساعة، حينما تحس الكاميرا أن سرعة السيارة كبيرة ستصور السيارة وستسجل السرعتها، بالإمكان استخدام الصورة لمعرفة المكان للسيارة حينما كانت منطلقة بسرعة 120 كيلو مترا في الساعة. مبدأ الريبة ينص على أن هاتين المعلومتين لا يمكن بأي حال من الأحول قياسهما بالضبط في آن واحد، فحينما تؤخذ قراءة لواحدة منهما لن يكون بالإمكان قياس الأخرى بدقة أبدا، وكان هازنبرج يعتقد أن مشكلة القياس تكمن في أن جهاز القياس هو السبب في تكوين هذا الخلل، أي أنه إذا أردنا قياس موقع الإلكترون، فإننا بهذه الطريقة نغير من سرعته بسبب طريقة القياس.

لم يكن بور مقتنعا تماما بطريقة تفسير هايزنبرج بأن السبب في عدم معرفتنا لمعلومتي الموقع والزخم للإلكترون هو طريقة القياس، ولم يوافق ما كتبه هايزنبرج في ورقته والتي كاد أن يتأخر نشرها بسبب عدم اقتناعه، مما سبب قلقا شديدا لهيزنبرج واحتد الخلاف بينهما، وأحسس هايزنبرج أنه قد يكون جرح مشاعر بور في إحدى نقاشاته مع، وكان أثناءها يراسل العالم ولفجانج باولي Wilfgang Pauli [5]Wilfgang Pauli ويشكي له همومه مع بور، ولكن أصر هايزبرج ونشر الورقة، بعدها بدأ بور بتشكيل فكرته من خلال الربط بين ثلاثة أفكار، الأولى لهايزنبرج، والثانية شرودنجر والثالثة لماكس بورن Max Born [6]Max Born ، حيث أنه جمع بين الجسيم والموجة مع الاحتمالات، فقال إن الموجة التي وضع قواعدها شرودنجر لم تكن سوى موجة احتمالية لمكان الإلكترون، فبدلا من أن تكون الموجة هي الإلكترون، الموجة حيث ما تكون عالية تدل على أن احتمال وجود الإلكترون أكبر في ذلك المكان، وأنه حينما تكون الموجة أقل ارتفاعا في نقطة أخرى فهذا يعني أنه احتمال وجود الإلكترون في ذلك المكان أقل. بسبب نظرية هايزنبرج وبسبب تفسير بور لها تغيرت نظرتنا للعالم، وسمي هذا التفسير لقواعد الرياضيات بتفسير الكوبنهاجن Copenhagen Iterpretation [7]Copenhagen Iterpretation .

في العَالم النيتوني المعروف حينما تضرب بكرة البليارد البيضاء لتوجهها إلى كرة أخرى بقصد الإيقاع بالكرة الثانية في الحفرة فأنت تستخدم قوانين الفيزياء لتحديد مستقبل الكرة، ولو أن أحدا يراقب ما تقوم به يستطيع أن يعرف هدفك، ولكن لو أنه عرف القوة التي ستطلق بها الكرة البيضاء من على الطاولة، وعرف الإتجاه والمعلومات الأخرى ككتل الكرات والاحتكاك في الطاولة وما إلى ذلك لاستطاع بالدقة المنتاهية معرفة إلى أين ستتجه كل كرة، وبم ستصطدم، ومتى تتوقف، العالم النيوتوني يجري بهذا الشكل، فلو أن لدينا المعلومات كلها بدقة متناهية لعرفنا إلى أين تتجه الأمور إذ يمكن حسابها علميا فيزيائيا، فلذلك يمكننا التنبؤ في المستقبل بدقة (حتى وإن كانت الميكانيكة النيوتونية صحيح، فلا يمكن التنبؤ بدقة بما سيحدث في المستقبل لأن المعلومات كلها لا يمكن حصرها، فمثلا في حالة الطقس، أنا حضرت الكثير من المحاضرات حول التبؤ بالطقس من الناحية الإحصائية، عملية معرفة مكان كل ذرة وحركة كل منها وتصادماتها مستحيلة، لذلك يلجأ العلماء لعلم الاحتمالات للتنبؤ بما سيحدث من تغيرات مناخية، وكلما كان النموذج الاحتمالي أفضل كلما كان التنبؤ أفضل)، فيقال بسبب هذا التصور أن الله خلق الكون في البداية ولم يحتج لأن يتدخل فيه، والأمور تجري من من البداية إلى النهاية بحسب نظام السببية، فكل سبب له مسبب واضح يقوم بدفعه للنقطة التالية، والمسبب تسبب فيه ما قبله، وما قبله، ولو أنك عرفت كل المعلومات اليوم لعرفت ما حدث قبلها والتي قبلها تعطيك معلومات عن التي قبلها وهكذا.

الميكانيكية الكمية

ولكن في العالم الكمي الذي نعيشه، الأمور تختلف بشكل دراماتيكي، هذا العالم لا يعتمد على القوانين الكلاسيكية نهائيا. لأنك لا تستطيع قياس مكان الإلكترون ولا سرعته بشكل مطلق فأنت إذن لن تعرف ما تأثيره على الأشياء التي حواليه، المشكلة أنت لن تعرف بأي حال من الأحوال حتى لو أحصيت كل المعلومات الموجودة في الكون بذراته وإلكتروناته وكل محتوياته لن تعرف إلام تسير الأمور، بكل صراحة ألغت المكانيكة الكمية مبدأ الحتمية. ليس ذلك فحسب، بل إن مجرد ملاحظة ما يحدث يغير من النتيجة النهائية، فخذ على سبيل المثال تجربة الشقين التي تكلمنا عنها في المرة السابقة، حينما أطلقنا الإلكترونات على الشقين واحدة واحدة فإن المحصلة النهائية هي تداخل موجي على الحائط، ولكن حينما نراقب الإلكترونات لمعرفة من أي شق دخل فإنه يتخذ قرارا بأن يدخل من شق دون آخر، وبذلك لا تتكون خطوط التداخل، ما يحدث أن الإلكترون يكون في حالة الموجة الاحتمالية، أي أنه فعليا غير معرف مكانه، بل هو يحتمل أن يكون هنا أو هناك، وحينما نريد أن نعرف أين هو فإن هذه الموجة الاحتمالية تتوقف عن كونها موجة وتنهار ليكون الإلكترون في مكان محدد، وهذا كله يعني أننا بمجرد محاولة معرفة المستقبل نحن نؤثر فيه.

عندها ازدادت شدة الصراعات بين فريق بور (ومنهم هازينبرج) وبين فريق آينشتين، وفكتبت عدة أوراق علمية، في كل منها فكرة تحاول أن تطيح بالأخرى، حتى أنه كتب آنشتين ورقة علمية بعنوان “هل يمكن أن يعتبر تفسير الميكانيكة الكمية للواقع المادي كاملا؟” (Can Quantum-Mechanical Description of Physical Reality Be Considered Complete؟) كتبها في شهر 5 سنة 1935 محاولا نقض أفكار هايزنبرج، فرد عليه بور بورقة بنفس العنوان بالضبط ترد عليه في شهر 10 من نفس السنة، ولكن الفكرة التي تقدم بها آنشتين مع بدولسكي وروزن كادت أن تطيح بفكرة هايزنبرج، حيث اقترح الثلاثة تجربة فكرية (لم تنفذ حينها) تحل معضلة قياس الموقع والسرعة للإلكترون المنطلق.

الميكانيكية الكمية

التجربة التي اقترحها الثلاثي إي بي آر (EPR)  تعتمد على الاستدارة Spin [8]Spin ، لن نخوض في الاستدارة، ولكن سأسهل الأمور كما سهلها الكثير من العالماء حتى نفهم مغزى التجربة، لنفترض أن فوتونين مرتبطين ببعضهم بما يسمى الاشتباك الكمي Quantum Entanglement [9]Quantum Entanglement انطلقا، فإنهما بطبيعة ارتباطهما سيسيران بنفس السرعة ولكن في الاتجاه المعاكس، فلو أننا وضعنا مجسة تقيس سرعة واحدة من الفتونتين فإن هذا سيفقدنا القدرة على قياس مكان الفوتون نفسه، ولكن نحن نعلم أن الفوتون الآخر يسير بنفس السرعة وإن كان معاكسا له في الاتجاه، في هذه الحالة، نستطيع أن نقيس مكان الفوتون الثاني، وبذلك نعرف مكان الأول، فكرة رائعة، نقضت مبدأ الريبة، وكادت أن تحطم مبدأ الميكانيكية الكمية.

مع مرور الوقت قام الكثير من العلماء بالتجارب التي دلت بشكل قاطع أنه حنيما نقوم بقياس سرعة الفوتون الأول، فإن الفوتون الثاني مباشرة يُخفي مكانه، وكأنما هناك خطاب بين الإثنين، وهذا ما حير العلماء ولازل يحيرهم إلى يومنا هذا، فكيف يمكن لفوتونين متباعدين بمسافة (حتى وإن كانت المسافة في أطراف الكون) أن يخبرا بعضهما البعض بما يحدث للآخر؟ حسب النظرية النسبية لا يوجد في الكون ما هو أسرع من الضوء، فكيف يمكن لشيئين أن يتخاطبا بأسرع من الضوء؟ إحدى الأفكار التي تحاول أن تعالج هذه المشكلة تقول أن الكون متداخل بطريقة يجعل من هذه الفوتونات متصلة، وهذه التداخلات والدهاليز تعطل مبدأ المكانيكية النيوتونية، فإما أن نخالف مبدأ النسبية من حيث أن هناك شيء أسرع من الضوء أو أن نقول أن الفوتونات المشتبكة لا تفترق بالمكان (المكان كما نعرفه نحن)، تخيل لو أنك الآن توشوش في أذن إحد إخوين توأم في اليمن طالبا منه أن يرفع يده عندها سيعرف أخوه ما قلته له بنفس اللحظة في المغرب ليرفع يده الأخرى، شيء غير معقول!

تجربة الشقين، ماذا فاتك من عجائب

مررنا في الحلقة السابقة بتجربة الشقين بشكل عابر، ولكن ما لم تفكر في هذه التجربة بعد أن أنتهيت من البودكاست السابق ستفوتك بعض المعاني الخفية العجيبة. حينما عرفنا أن الإلكترون حينما يمر في الشقوق بلا ملاحظة فإنه يمر في واحدة وفي الثانية وفي كلاهما وليس في اي منهما، وأن جميع هذه الحالات قام بها الإلكترون في نفس الوقت، وأنه في النهاية حينما يتصطدم بالحائط تجتمع جميع هذه الحالات لتكون حالة واحدة للإلكترون، ولو أننا حاولنا الكشف عن المسار الذي يتخذه الإلكترون فإن موجة الاحتمالات تنهار ويقوم الإلكترون بعملية محددة، فإما أن يمر في الشق الأول أو الثاني، فكر قليلا بما يعنيه هذا الشيء، ماذا يحدث لو أنك أبعدت المجسات عن الشقين إلى مسافة بعيدة جدا، حتى لو كانت سنوات ضوئية، حينما ينطلق الإلكترون ويمر عبر الشقين فإنه وقبل أن تقوم المجسة باختبار من أين دخل الإلكترون سيكون اختيار الإلكترون طريقة عمل الموجة، ولكن بعد أن تقوم المجسة على بعد سنوات ضوئية من الكشف عن الطريق فإن الإكترون يتخذ مسارا محددا ويقرر أن يكون قدر خرج من إحدى الفتحتين، فهذا يعني أن التجربة اليوم أثرت على ما قرار الإلكترون قبل عدة سنوات، فكأنما تَحدد ماضي الإلكترون بما يحدث له في المستقبل، فكيف ذلك؟ أليس من المفروض أن يكون الماضي محددا معروفا؟ يقول براين جرين في كتابه نسيج الكون (The Fabric of the Cosmos)، حتى لو أن فتونات انطلقت من نجمة في أعماق الكون، ثم مرت على مجرة أثرت في حركتها لتتجه إلى الأرض بسبب الجاذبية والتي عملت كعدسة، وبعد مرور مليارات السنين وإلى أن تكونت الأرض، ثم جمع أحدهم في المخبر هذه الفوتونات لتكونت لدينا الخطوط على الحائط بسبب التداخل، ولكن ما أن يقوم بوضع مجسة، ستحدد الإلكترونات مسارها ابتداءا من النجم الذي انطلقت منه، حتى وإن كانت قد انطلقت بمليارات من السنين قبلها. هل الميكانيكة الكمية تخالف مبدأ الماضي؟ بالطبع لا، فهي لا تنكر أن الماضي قد حدث، ولكنها تعالج الماضي بطريقة مختلفة عن الفيزياء الكلاسيكية. في الميكانيكة الكمية الفوتون المنطلق من النجم البعيد في الماضي كان في حالة بحيث سار في جميع المسارات التي كان محتملا أن يسير فيها، ولكنه وحينما نختبره فإننا فرضنا عليه أن يتخذ موقفا محددا.

نكمل مسيرة الميكانيكية الكمية في الحلقة القادمة إن شاء الله.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى