طبعلمعلم نفسعلوم زائفة

SW180 الكذبة الكبرى

كاد العالم أن يقضي على مرض الحصبة، مرض شديد العدوى، ترتفع فيه درجة حرارة الشخص إذا ما التقط الشخص الفيروس، تصاحبها كحة ورشح وعيون ملتهبة، بعد ذلك تظهر نقاط بيضاء بداخل الفم، ثم يطفح الجلد بالنقاط الحمراء ابتداء من الوجه، وتنقل لتغطي الجسم بالكامل، ثم يتطور الأمر إلى إسهال والتهاب في الأذن الوسطى مع التهاب رئوي، وقد يصاحب ذلك نوبات صرع وعمى والتهاب في المخ، مرض فتاك، كان ينتشر كل 2-3 سنوات عالميا قبل عام 1963، ويحصد معه 2.6 مليون شخص من أطفال وكبار في السن، وأكثر من كان يتأثر به الصغار، حتى ظهرت التطعيمات، وانخفضت أعدد الموتى بنسبة 84% بين عامي 2000 إلى 2016، وبهذا أنقذ التطعيم ما يعادل أكثر من 20 مليون نسمة، وكاد المرض أن يختفي من وجه الكرة الأرضية. [1]PAHO Basic Measles Facts.

كان بالإمكان القضاء على المرض تماما، لولا تدخل عالم واحد في الموضوع، نشر معلومة خاطئة جدا وكذبة كبيرة، وهي أن التطعيمات تصيب الأطفال بالتوحد، وذلك من خلال بحث لا يربط بين التوحد والتطعيمات، أصر على موقفه رغم تزويره للأبحاث، ونشر المعلومات شفاهة وفي الأخبار والمؤتمرات وفي كل فرصة ممكنة، بدأ بفكرة أن التطعيمات يجب أن لا تدمج مع بعضها في إبرة واحدة، وانتقل إلى أن التطعيمات تصيب الأطفال بالتوحد من غير أي دليل، وإلى أن التطعيمات بشكل عام مضرة من غير تجربة علمية، ولا دليل واحد، رجل كذب على العالم أجمع، واستخدم هذه الحجة للاستفادة المادية والشخصية.

أما الآن فقد أصبحت هذه الكذبة مطبوعة على ألسنة الكثير من الناس من غير دليل واحد عليها. ولهذا السبب بعد أن كاد العالم أن يقضي على الفيروس أصبحت أجساد الأطفال الذين صدق آباؤهم الكذبة مرتعا له. الآن، ورغم تخفيض نسبة الموتى من التطعيم إلى حد كبير، إلا أن فيروس الحصبة لا يزال موجودا عالميا، ولا يزال ينتشر ويقتل الأطفال.

هذه هي قصة أندرو ويكفيلد.

لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!

هذه القصة عن العالم الذي غير نظرة الناس للتطعيمات من خلال إصراره على نشر أكاذيب حولها، بدأ رحلته بأبحاث علمية حول موضوع مختلف عن التطعيمات، ثم ألصق تهمته للتطعيمات التي لم يبحثها علميا، ثم اُكتشف لاحقا أن بحثه كان مزورا، وأن التجارب العلمية التي أقيمت تشوبها الكثير من الأخطاء التجريبية والأخلاقية.

استفاد ماديا بنشره الكذبة وأصبح مليونيرا، تربح منها أثناء بحثه في الموضوع من خلال مكتب محاماة، وتربح بعد ذلك من خلال إقامة محاضرات عالميا رغم الكشف عن تزويره للمادة العلمية، عاش في بيوت مليونية بسبب الكذبة، وصاحب الشخصيات الشهيرة في هوليود، ووصل إلى القمة لما كان ترامب رئيسا للولايات المتحدة، حيث استفاد منه ترامب في نشر كذبة التطعيمات أكثر، بل ساهم كذلك في نشر كذبة التطعيمات التي أنتجت لمقاومة فيروس كورونا ، وإلى يومنا هذا يعمل على نشر الأكاذيب.

اعتمدت في هذا الموضوع على كتاب واحد فقط، وهو كتاب الكذبة الكبرى، حيث ألف الكاتب كتابه بناء على رسائل متعددة، وأوراق من المحكمة، وشهادات تحت الحلف، ومقابلات رسمية، وكذلك نصوص من محاكمات طبية، ورسائل شخصية، ومقابلات مسجلة بالصوت أو بالصوت والصورة، وإيميلات، ومذكرات، وسجلات مالية، وسجلات هاتفية، ومحاضر اجتماع، وسجلات سفر، وتحاليل علمية، وأمور أخرى كلها مبنية على أدلة واضحة.[2]The Big Lie: How One Doctor’s Medical Fraud Launched Today’s Deadly Anti-Vax Movement

بداية طبيب

أندرو ويكفيلد بريطاني، ولد لأب متخصص في علم الأعصاب وطبيب عام، درس الطب ثم قضى الإقامة الطبية (Medical Residancy) في مستشفى سينت ميري (Saint Mary) بين عامي 1981 – 1985، ثم سافر من بريطانيا وإلى تورونتو كندا لمدة عامين، وعاد بعدها إلى بريطانيا ليعمل في المجال البحثي بمجال زراعة الكبد، كان ذلك في مستشفى Royal Free، مستشفى تعليمي مرموقة، وخلال فترة عمله هناك أصبح معروفا في نشره للأبحاث العلمية من خلال معلومات جمعها من تورونتو.

لاحظ أمرا مهما من في تلك الفترة، وهو أن مع زراعة الكبد ورفض الجسم له يتكون مرض اسمه كرون (Chron’s)، وهو عبارة عن التهاب في الجهاز الهضمي، واعتقد أنه قد يكون وأن سبب المرض هو فيروسي، فبدأ الأبحاث في هذا المجال، ولو كانت فرضيته صحيحة، فقد يعني ذلك أنه سيفتح باب جديدا من العلم، ولعله سيحصد جائزة نوبل.

افترض ويكفيلد أن السبب لهذا المرض هو التطعيم نفسه، أي تطعيم بالتحديد؟ تطعيم الحصبة، لم يعتقد أن المرض تتسبب فيه الحصبة الموجودة في الطبيعة، ولكن الحصبة المضعفة الموجودة في التطعيم، ومع ذلك لم يكن مختصا في التطعيمات، ولا علم المناعة، ولا حتى في فيروس الحصبة.

أرسل ويكفيلد رسالة إلى مختص بتطعيم الأطفال ورئيس وحدة التطعيم في الصحة ببريطانيا، وأخبره أن أعداد مرضى كرونز تزداد، وأن هذه الزيادة مرتبطة بزيادة أعداد المتطعمين لمرض الحصبة، هذه الفرضية لم تعتمد على أي دليل علمي، بل اعتمدت على ربط تزامني وملاحظة عابرة، وحتى أنه في الرسالة ذكر أن الربط قد لا يكون موجودا بين الإثنين، لكنه في رسالته هذه أرفق تهديدا مبطنا، بأن الصحافة قد تربط بين التطعيم ومرض كرونز، كان هدف هذا التهديد مقابلة رئيس وحدة التطعيم حتى يطلب دعم مادي للأبحاث، فكيف يمكن للصحافة معرفة شيء مثل هذا من غير أن يُعلم أندرو ويكفيلد إياهم بنفسه في هذه العلاقة؟ هذا الربط لم يكن موجودا نهائيا في أي بحث علمي. استغرب رئيس وحدة التطعيم ديفيد ساليزبيري من طلب الدعم، خصوصا أن الوحدة لا تقدم أي دعم مادي للأبحاث في أي مجال، فلماذا طالبهم ويكفيلد بالدعم؟

بعد فترة نشر ويكفيلد دراسة علمية في مجلة علم الفيروسات الطبية (Journal of Medical Virology) تبين بأن هناك علاقة بين مرض كرونز وفيروس الحصبة، حيث وجده فعليا ببعض البقع الملتهبة، المشكلة الأساسية في الدراسة أنها كانت تعتمد على 9 مرضى بمرض كرون، ولا تكاد تكون هناك دراسة على أمعاء أشخاص أصحاء، حيث كان عدد الأصحاء الذين أخذت منهم عينات إثنين فقط، دراسة ضعيفة بكل المعايير، إحصائيا لم تدل على شيء، وعلميا لم تكن الدراسة متزنة، لا من حيث عدد المرضى ولا من حيث أعداد الكنترول، قد تقول أن هذه دراسة ابتدائية، وربما تبين أن هناك شيء ما يجب البحث عنه أكثر، ولكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير، حيث سيظهر لاحقا أن دراساته العلمية كلها كانت مشوبة بأخطاء فادحة، أخطاء لا يخطؤها أصغر الباحثين في هذا المجال.

في تلك الأيام، وفي عام 1985 بدأت حركة بسيطة مناهضة للتطعيمات، كانت الفكرة- التي لم تعتمد على أي دراسة- تدعي أن التطعيمات تتسبب في التوحد، أطلق عليها اختصار دي تي بي dpt اختصارا لـ: Dissatisfied Parents Together، أو الأباء المستاؤون معا، ثم تغير الإسم في التسعينيات ليصبح “مركز معلومات التطعيم الوطني”، للأسف الاسم اتخذ طابع رسمي، يوحي وكأن الموقع  لجهة مختصة في التطعيمات، وإن كانت الجهة غير مختصة فيه ولا تمثله، بل تمثل الناس التي لا تعترف بسلامة التطعيم، ولا تقدم آراء مختصة فيه، بل إن بعض الممثلين أو المشاهير انضموا لهم، مع الادعاء بأنهم مختصين، للأسف، ولم تتوقف إدعاءات مضار التطعيم عند حد التوحد، بل بدأت بتطوير الفكرة لتشمل السرطان والتصلب المتعدد، والربو، والموت الفجائي للأطفال، كل ذلك من غير دليل واحد.

أحد الشخصيات التي انضمت إلى مجموعة ويكفيلد البحثية، وفي المختبر بالأخص، كانت نيكولاس تشادويك، بدأ بالعمل بحماس معه، ولكنه مع الوقت بدأ بفقدان ثقته بما يحدث مع التجارب، إحدى الأشياء التي عمل عليها هي تكرار تجارب ويكفيلد التي تبين أن هناك رابطا بين فيروس الحصبة ومرض كرون، ولكنه لم يجد نفس النتائج، وكذلك أقام تجارب لكي يجد الفيروسات في أماكن الالتهابات، ولكنه اكتشف إشكالات في طريقة الاختبار، حتى أنه طور الاختبار حتى يضمن درجة من أكبر من الدقة، إلا أنه لم يجد الفيروس في أي من التحاليل، وحينما أخبر ويكفيلد بالنتائج، بين له أنه لا يريد النقاش فيها، وتجاهلها تماما. غريب، لماذا يتجاهل التجارب رغم أنها كانت تبين إشكالية كبيرة بالمقارنة مع نتائجه؟ سنعرف السر لاحقا.

الحرب تتصاعد

وفي الوقت الذي كانت تتصاعد فيه حالات الحصبة في بريطانيا، ومع بدء التطعيم، أرسل ويكفيلد رسالة جديدة لرئيس وحدة التطعيم، يؤكد على أهمية أبحاثه، وطلب مرة أخرى أن تدعم الحكومة هذه الأبحاث ، فاجتمع رئيس وحدة التطعيم هذه المرة مع ويكفيلد، وأحضر الرئيس مختص بمرض كرون معه، وسأله إذا ما كان فيروس الحصبة سببا في المرض، فأجابه المختص أن السبب الصحيح هو بكتيريا وليس فيروس على حد علمه.

أما بالنسبة للدعم المادي، فأخبر ويكفيلد أن بإمكانه طلب الدعم من مجلس البحوث الطبية (Medical Research Council) وهي الجهة التي تدعم الأبحاث العلمية، فأنزعج هذا الرد ويكفيلد، فأرسل ويكفيلد عدة رسائل بعدها مطالبا الصحة بمطالب غير طبيعية حول التطعيمات، ولكن الصحة لم تكن لتغير طريقة عملها أو اللوائح من غير دليل قوي على صحة مزاعم ويكفيلد.

ومن ضمن ما أرسل ويكفيلد رسالة تحتوي على ورقته العلمية التي كان ينوي نشرها في المجلة المرموقة لانست The Lancet. ولعل هذه الخطوة تعد من أكثر الخطوات تأثيرا في نشر إشاعة تأثير اللقاح لاحقا، وإن لم تكن الورقة عن اللقاحات بالتحديد، ولكنها أعطت قوة هائلة لويكفيلد ليستغلها من صالحه.

نشر ويكفيلد ورقته العلمية، ثم أقامت مستشفى رويال فري مؤتمرا عنها، ولكن تأثير المؤتمر لم يكن بتلك القوة المتوقعة، مارد الورقة العلمية في لانسيت لم يفق بعد، بل إن أحد الذين شاركوا في كتابة الورقة بين أن العلاقة بين مرض كرون والتطعيم كانت ضعيفة، ومع ذلك، وبسبب نشر الأخبار عن هذه الموضوع فُتح باب جديد لويكفيلد، حيث اتصلت به أم لطفل به توحد بتاريخ 19 مايو 1995، (لاحظوا الموضوع المهم)، إلى هذه اللحظة، لم يربط ويكفيلد التطعيم مع التوحد، الربط الوحيد الذي قام هو بين التطعيم ومرض كرون، التهاب في الأمعاء، ولكن هذا الاتصال غير كل شيء، وتوجه نظر ويكفيلد إلى التوحد.

أخبرت روزميري كيسيك (Rosemary Kessick) أم الطفل المتوحد ويكفيلد أن ابنها كان يعاني من مشاكل في الأمعاء حينما كان في عمر عامين، وكان ذلك حينما بدأ الطفل بإظهار أعرض التوحد، وفي أثناء تلك المحادثة أخبرته بأنها تعتقد أن التطعيم MMR، وهو تطعيم مكون من ثلاث تطعيمات Measles Mump and Rubella أو حصبة والنكاف والحصبة الألمانية، تطعيم ضد ثلاثة من الفيروسات المدمرة للأطفال هو سبب أعراض ابنها، حيث تزامنت ظهور الأعراض مع وقت التطعيم، وهنا بدأت رحلة جديدة لويكفيلد.

لقد ربط ويكفيلد بطريقة غير مباشرة التوحد بمرض كورن ومرض كرون بالتطعيم، ولذلك طلب من صديقه الدكتور والكر سميث (Walker Smith) بفحص الطفل، وبعد فحصه تبين أن الطفل ليس مريضا بمرض كرون، بل حتى إن آلام البطن التي كان يعاني منها كانت موجودة معه قبل أن يأخذ التطعيم بأشهر، وهذا يعني أن لا علاقة للطفل بالتطعيم الذي اعتقد ويكفيلد أنه مرتبط بمرض كرون، ولكن هذا لن يثنيه عن توجهه الجديد، ومع ذلك طلب ويكفيلد من والكر سميث العمل معه في البحث، وقبل ذلك.

كنز من التوحد

لقد اكتشف ويكفيلد كنز من أطفال التوحد، فقد كانت روزميري مرتبطة بمجموعة من الآباء الأخرين الذين كانوا يعتقدون نفس اعتقادها، وهذا يعني أن بإمكان ويكفيلد القيام بتجارب متعددة على عدة أطفال حتى يثبت فكرته، فبدأ بكتابة بروتوكول لاختبارهم، وهذه كانت إحدى أخطائه، لأن بروتوكولات التعامل مع الأطفال وخصوصا المتوحدين ليست من تخصصه، وهو لا يعرف كيفية التعامل معهم، بل إن هناك بتروتوكولات مدروسة كان بإمكانه العمل بها، إلا أنه كتب بروتوكولا سيئا جدا، وكان من سوءته أن الكثير من الأطفال عانوا في الإجراءات لأخذ العينات منهم. لم يطلع أي جهة في مستشفى رويال فري على ما كتبه لأخذ الموافقة عليه، حتى أنه لم يطلع أي من الأطباء أو الباحثين معه على هذه البرتوكولات.

كتب ويكفيلد مقالة بعنوان: “ضربة في الظلام”، في جريدة الساندي تايمز، ذكر فيها الربط بين لقاح MMR مع مرض كرون، وكانت فعلا ضربة في ظلام، ولم يكن عليها أي دليل إلى الآن، ولكن لم يمنعه ذلك من نشر مقالة تثير المخاوف، وبعد نشره لها مع صورته الشخصية فيها اتصل به المحامي ريتشارد بار (Richard Barr)، لقد رفع قضية ضد الحكومة بالنيابة عن مجموعة من الآباء الذين يعتقدون أن أبناءهم أصيبوا بالتوحد بسبب التطعيم، لا بل الاعتقاد بأضرار التطعيمات كانت أوسع من ذلك حيث شملت القضية أمراض أخرى مثل التصلب المتعدد، والسكري، والتهاب المفاصل عند الصغار، وأمراض أخرى متنوعة، وكانت إحدى هذه الأمهات روزميري. طلب بار من ويكفيلد أن يكون شاهد مختص في هذه القضية، فقبل بذلك، واتفقا على سعر 150 باوند مقابل الساعة الواحدة لأتعابه، بالإضافة إلى 57,000 باوند لإجراء الاختبارات المطلوبة على الأطفال.

أقام والكر سميث تجربة على طفل آخر مصاب بالتوحد، حتى يعرف إن كانت حالته مرتبطة بمرض كرون، واكتشف أيضا أنه لم يكن مريضا بكرون هو أيضا، ثم أعاد التجربة مرة أخرى الطفل الأول، ابن روزميري، وتبين أنه مرة أخرى لا أثر للمرض في جسمه، ومع ذلك قرر ويكفيلد أن يبقى الطفلان في قائمة التجارب المستقبلية، ولعل من أسوأ ما قام به في الأيام القادمة هي التجارب التي لم تكن بروتوكولاتها صحيحة، وضعهم تحت التخدير، واجرى عليهم مناظير للقولون، والبزل القطني (Lumbar Puncher)، وهي عملية إدخال الإبرة في المنطقة القطنية في الظهر لأخذ عينة من السائل الدماغي الشوكي، وأدخل في أجسادهم فيتامين B12 مع صبغة، واختبارات أخرى من المفروض ألا تقام في العادة مع هذه النوع من الأطفال.

وكل هذه التجارب أقيمت من غير المرور على لجنة الأخلاقية في مستشفى رويال فري.

نشر ويكفيلد دراسة جديدة في مجلة لانسيت، وكانت عن تحليل 25,000 طفل مولود من عام 1940 إلى عام 1949، وكان من بينها 4 نساء أصبن بالحصبة أثناء حملهن، ثلاثة من الأربع نساء وَلدن أطفالا مصابين بمرض كرون، فاعتقد أن هذه الدراسة تثبت أن بالدليل القاطع هناك علاقة سببية بين مرض كرون وتطعيم الحصبة، رغم أن بين عامي 1940 و1949 لم يكن هناك تطعيم للحصبة أصلا، فكيف أقام الربط بين الإثنين؟ أمر محير.

أرسل رسالة إلى الصحة مرة أخرى، مهددا إياهم بأن السد سينفجر، قاصدا بذلك انتشار خبر تأثير التطعيمات على مرض كرون، وطالبهم بإيقاف التطعيم.

وأرسل رسالة أخرى للمحامي مطالبا إياه بملغ إضافي قدره 25,000 باوند، وأخبره أن النتائج رائعة، وأكد على أن جميع الاختبارات على الأطفال دلت على أنهم كلهم مصابين بفيروس الحصبة، رغم أن كل التحاليل لم تأتي بهذه النتيجة، بل على العكس، لم يكن أي منهم مصاب بكرون في الأساس. كل الاختبارات التي أقامها تشادويك -معاونه في المختبر-   لم تظهر أي دليل على وجود الفيروس. وإن كانت بعض التحاليل ملوثة من عينة امتلكها ويكفيلد في مختبر بجانب المختبر الذي كان يعمل به تشادويك، وحتى يتأكد تشادويك من التحاليل، أرسل العينات لمختبر في اليابان، فأتت النتائج مناقضة مرة أخرى لفرضية ويكفيلد، بينت أن هناك تلوث في العينات. لما أخبر تشادويك ويكفيلد بالنتائج، شكره، ثم أبلغ المحامي بار بأن النتائج أثبتت فرضيته. كذب صريح!

بعد أشهر من إجراء التجارب على خمسة أطفال أرسل ويكفيلد برتوكول الاختبار إلى اللجنة الأخلاقية في المستشفى، فرفضته لأنه يحتوي على اختبارات اجتياحية (مثل أخذ عينات من بإدخال المناظير إلى داخل الأطفال من الخلف، وأخذ عينات من الظهر)، اختبارات شديدة بالنسبة لأطفال لم يثبت أي ارتباط لهم بالمرض، وأطفال يعانون من توحد عادة ما يكونون فائقين في استشعارهم للآلام. كل التجارب التي أقامها ويكفيلد تعد لا أخلاقية، فقررت اللجنة أن هذه الاختبارات تقام فقط في حالة الرعاية الطبية الاعتيادية، وليس من خلال إجراء التجارب الخاصة بويكفيلد.

أضف لذلك أن ويكفيلد لم يصرح في أي من الأوراق الرسمية أن هناك أي تضارب مصالح، فقد كان يأخذ المال من شركة المحاماة التي كانت ترفع قضايا لصالح الآباء الذين كانت افتراضاتهم أن التطعيم هو سبب التوحد، وهذا يعني أن قد يؤثر هذا المال على قرارات ويكفيلد، وعلى نتائج دراساته، وهذا فعلا ما حدث، فقد أصر ويكفيلد على فرض نتائج معينة لم تكن موجودة، وكان يبلغ المحامي بار أن النتائج من صالح المترافعين، وهو الشاهد المختص على ذلك. لقد أخفى هذا الأمر تماما عن المستشفى، وبلغ فقط عن المال الذي كان يأتيه منها فقط.

وبعد نقاشات مع اللجنة الأخلاقية، قررت أن تقبل بالبروتوكولات التي أسس لها ويكفيلد بشرط ألا تشتمل الدراسة على الأطفال الخمسة التي أجريت عليهم التجارب من قبل اطلاع اللجنة على البرتوكولات عليها، فاتفق ويكفيلد على أن يزيل الأطفال الخمسة، وبعد الاتفاق أبقى الأطفال من الدراسة، وأبقاهم للتجارب اللاحقة.

وبعد أشهر، اكتشف والكر الطبيب الذي يعمل مع ويكفيلد أنه يعمل بالسر مع شركة المحاماة، وهذا يشكل تعارض مصالح صريح، بل من خلال التراسل بينه وبين ويكفيلد، أصبح الصورة واضحة بالنسبة لوالكر، لقد كان ويكفيلد مرتبطا ارتباطا عاطفيا فلسفيا مع القضية، وقد أصبحت المهمة هاجسا يجب عليه تحقيقها رغما عن أنف الأدلة، لقد أُحرج والكر، ولذلك لم يساهم أبدا في العمل على الشهادة في القضية نفسها، مع أنه استمر بالعمل على التجارب.

بعد ذلك انضم مختص في علم نفس الأطفال إلى فريق ويكفيلد، وبدأ بالحديث مع آباء الأطفال الذي كانوا في التجربة، اكتشف أمرا غريبا، بعد مقابلته لبعض الآباء، وطرح الأسئلة عليهم لمعرفة متى أصبح أطفالهم متوحدين اكتشف أن أحدهم لم يكن متوحدا أساسا، ولم تكن عليه أعراض متلازمة الأمعاء، إذن هذا الطفل بالتحديد لا يصلح للتجارب. فأرسل رسالة إلى ويكفيلد مطالبا إياه بإزالة الطفل من الدراسة، فلم يستجب له، وأبقى الطفل في التجربة، واستخدم ويكفيلد أرقاما لترقيم الأطفال حتى لا تُعرف أسماؤهم، وأعطى هذا الطفل الرقم 10، فلم يعلم مختص علم النفس أن الطفل أبقي في التجارب إلا بعد سنوات من طلب   إزالته.

تطوير دواء وهمي

لم يتوقف ويكفيلد عند ربط تطعيم MMR مع التوحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، اقترح علاجا جديدا لم يخترعه بعد، أسمى العلاج باسم Transfer Factor أو عامل النقل، مم يستخلص هذا الدواء العجيب؟ يؤخذ من دماء أو خلايا طحال شخص أو حيوان، بحيث تكون لدى هذا الشخص أو الحيوان مناعة لمرض معين، وهذا النوع من العلاجات طرح سابقا ومنذ سنوات طويلة، ولكن لم يتفق عليه المختصين في علم المناعة، ولا توجد تجربة واحدة منضبطة عليه، بل إن كل ما ذكر عن التأثير العلاجي لهذا النوع من العلاجات يأتي من السرد القصصي.

بل الأسوأ من ذلك، عمل ويكفيلد مع عالم في علم المناعة اسمه فاندينبيرغ (Fundenbeurg) سحبت منه رخصته الطبية في الولايات المتحدة الأمريكية لأنه قام بأعمال غير أخلاقية وغير احترافية، لقد كان يأخذ الأدوية المخدرة من العاملين لديه للاستهلاك الشخصي، وكذلك كان يصرف الأدوية المخدرة لأشخاص لم يكونوا مرضى.

فاندنبيرغ فكر بأن يصيب الفئران بالحصبة، ثم يأخذ كريات الدم البيضاء منها، ثم ينقل هذه الكريات البيضاء إلى الماعز الحامل، ثم بعدما لا تضع صغارها يأخذ الحليب من الأم، ثم يحول الحليب إلى أقراص، ليعطيها للأطفال، وهذا الأمر لم يكن مجربا بتاتا، وسنأتي لاحقا لتجربة أقامها ويكفيلد على أحد الأطفال بإعطائه هذا الدواء الذي لم يجرب حتى على الحيوانات، تجربة لم ترخص له، وتجربة قد يطمح أن تجعله مليونيرا يوما ما.

وبعد فترة من الزمن جمع ويكفيلد مبلغ 200 ألف باوند لإنشاء شركة تنتج هذا العلاج.

النشر العام قبل النشر العلمي

بتاريخ 2 أغسطس 1997 حضر صحفي إلى مستشفى رويال فري، وطلب معرفة المزيد عن العلاقة بين التطعيم والتوحد، كيف عرف هذا الصحفي بالموضوع قبل أن ينشر في أي مكان؟ بحثوا عن ويكفيلد، وإذا به خرج في إجازة، لقد كان هو السبب في إخبار الصحفي في الموضوع، نقل معلوماته المفبركة عن التطعيمات إلى الساحة العامة قبل نشرها في مجلة علمية، نشرت مقالة عامة عن الموضوع، وجعلت من مصادرها 5 أوراق لويكفيلد لم تنشر بعد، وفي المقالة اتهم الحكومة بأنها تحاول أن تسكته، وبعد محاولات عديدة للوصول لويكفيلد وصلوا له، وحينما سألوه عن سبب تصريحاته المبكرة، ذكر لهم أنه تحدث مع الصحفي بشكل غير رسمي، ولم يتوقع أن ينشر كلامه.

الآن وبعد أن انتشرت المقالة وخصوصا  لافي الأوساط العامة، بدأت مخاوف الآباء تدب، “التطعيمات تسبب التوحد.”

في نوفمبر عام 1997 أرسل ويكفيلد ورقتان علميتان لتنشران في مجلة لانسيت، إحداهما رفضت والأخرى كانت مثيرة، لقد ربط ويكفيلد بين تطعيم MMR ومشاكل في الجهاز الهضمي، وكان من ضمن الورقة استبيان لاثني عشر أسرة، حيث ربطت الأسر بين التطعيم والتوحد. لم تعبه المجلة بهذا الاستبيان لأن العادة الناس لا تستطيع أن تدلي بمعلومات دقيقة، ولذلك الربط من خلال شهادة الأسر ليست ذات أهمية، أما الربط بين MMR والجهاز الهضمي، فذلك كان أمرا مهما.

مع ذلك طلبت المجلة من ويكفيلد أن يصحح النتائج من الاستبيان، بحيث يبين أن ما يستقرئه منها ليس دليلا قاطعا، إنما يعد تخمينا، لأنه فعلا كان مجرد افتراض، وعليه أن يؤكد على أهمية التطعيم إذا أراد أن تقبل ورقته، خصوصا أن لا يمتلك الأدلة على افتراضاته، استقبل هو وزملاؤه الرد من لانسيت، وأضاف ويكفيلد جملة جديدة للمقالة كتصحيح، وهي أن البروتوكولات اعتمدت من مستشفى رويال فري، في الحقيقة قبول المستشفى للبروتوكول كان مشروط بإزالة الأطفال الخمسة من الدراسة، وأن أي طفل آخر جديد لا يعرض للتجارب الاجتياحية إلا من خلال الرعاية الطبية الاعتيادية، وهذا ما لم يفعله ويكفيلد، أقحم الأطفال الخمسة في الورقة، وأكمل التجارب عليهم وعلى آخرين، لقد كانت هذه أيضا كذبة إضافية إلى الورقة، ولو علمت بها مجلة لانسيت لما قبلت الورقة أبدا. عدل ويكفيلد وزملاؤه على المقالة بحسب الطلب، وأُقرت للنشر في المجلة.

اليوم المشؤوم

في فبراير عام 1998، وبعد نشر الورقة، اجتمع مجموعة الباحثين مع أندرو ويكفيلد للحديث أمام الصحافة عن الورقة التي نشرتها لانسيت، وهنا انفجرت قنبلة ربط التطعيمات مع التوحد.

لقد حاولت مستشفى رويال فري أن تكبح جماح ويكفيلد، لأنها اكتشفت من تجارب سابقة أنه يتكلم مع الصحافة من غير أدلة، ويثير مواضيع مغالطة، لقد حاولت أن تجعل المتكلمين في المؤتمر المشاركين في البحث غير ويكفيلد، ولكنها لم تفلح، حاولت أن تجعل الحديث فقط منصبا على نتائج التجارب التي أقامها ويكفيلد، إلا أن ويكفيلد أخذ منحا آخر، وطرح موضوع لم يكن في البحث أساسا.

أمسك ويكفيلد بالميكروفون، قال: “لا أستطيع قبول الاستخدام المستمر لإعطاء الثلاث تطعيمات مع بعض، لابد أن نعرف ما تأثير  التهاب القناة الهضمية على التوحد.” وذكر أنه يجب إيقاف تطعيم MMR وأنه يجب ألا نجعل الأطفال في خطر، وأن بإمكان الصحة فعل ذلك إذا ما فرقوا بين التطعيمات، ثم هاجم آمنيتها التطعيمات، وذكر أنها لم تقام عليها تجارب صحيحة، وشكك في مصداقية الحكومة.

بعد هذا التفجير وإقحام موضوع خارج الدراسة، بسرعة نقل الميكروفون إلى عالم آخر شارك في كتابة الورقة، لقد كان مندهشا من تصرف ويكفيلد، ولكنه كان أكثر عقلانية منه، فدافع عن تطعيم MMR، ونصح بأخذه.

ولكن مهما كانت المحاولة في إنقاذ المؤتمر وتوجيهه لنتائج البحث الحقيقية، لم تعبه الصحافة إلى النتائج، وركزت على ما قاله ويكفيلد، فتحول الصحفيين إليه، ووجهوا إليه أسئلة أكثر، ونسوا نتائج البحث المنشور.

بل الأسوأ من ذلك كله، ومن غير علم إدارة المستشفى أو زملاؤه الأطباء، أعد ويكفيلد فيديو للصحافة من خلال شركة خارج المستشفى، نشره من خلال مكتب الصحافة في المستشفى، في بداية الفيديو تظهر صورة إبرة تقطر سائل، ثم تقطع الصورة إلى بنت تبكي أثناء حقنها بالتطعيم، ثم أب يتحدث عن تطعيم MMR وأنه كان سببا في توحد ابنته. ثم يظهر ويكفيلد وينصح بتفريق التطعيمات الثلاثة عن بعضها، وبين أن إعطاء تطعيم الحصبة لوحده يخفض من فرص الإصابة بالتوحد، كلام ليس له أساس من الصحة، وليس في دراسته أي شيء يبين أنه درس هذا الموضوع. انفجرت الأخبار بهذه القصة الكاذبة.

الآن خرج المارد من الزجاجة من الزجاجة، وهُدم السد.

حاولت مستشفى رويال فري تصحيح الأخبار، ولكنها لم تنجح، الصحافة لم تهتم للتصحيح، بل إن المستشفى حاولت بعد ذلك ولمدة عام تصحيح النشر الصحفي، ولكنها فشلت، وحتى أنهم كانوا يقرأون بعض المعلومات الهامة من ورقة ويكفيلد للصحفيين، والتي تبين أن بصريح العبارة تحتوي على جملة: “لم نجد أي ربط بين تطعيم الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية مع المرض، والاختبارات الفيروسية قادمة وقد تحل المشكلة.” عبارة صريحة تبين أن التجارب لم تقام بعد لإثبات فرضية ويكفيلد، إلا أن الصحافة لم تكترث بتاتا.

في شهر مارس من نفس السنة، لاحظ أندرو روز (Andrew Rouse) مسؤول الصحة العامة ملاحظة في ورقة ويكفيلد، وهي أن الطريقة التي أتى بها ويكفيلد بالأطفال لم تدون في ورقته، كيف وصل إليهم؟ هل كان من خلال أطباء آخرين، أم أن الآباء تقدموا له؟ التساؤل هذا مهم، لأن إذا كان من خلال الأطباء، فهذا يعني أن الأطباء قاموا ببعض الفحوصات للتأكد من وجود خلل ما يستدعي للقيام بالفحوصات المطلوبة للتأكد أكثر من حالتهم، ولكن إن كان الآباء هم الذين أحضروهم للتجربة مباشرة من غير المرور بالفحص عند الأطباء، فهذا يعني أن هناك انحياز، وقد يكون الآباء مخطئين تماما في تشخيص أبنائهم، ونحن نعلم على الأقل أن الطبيب المختص بالتوحد لما فحص أحد الأطفال لم يكتشف دليلا على توحده، وهذا خطأ من الأب في تشخيص حالة ابنه، ولاحظ راوز أيضا أن بعض آباء الأطفال كانوا مرتبطين مع بعض، وينتمون إلى جمعية واحدة، وهم أيضا مرتبطون بقضية في المحكمة، هذا الأمر مثير جدا، ويؤثر على مصداقية البحث خصوصا أن ويكفيلد لم يذكر هذا التعارض الصريح في الورقة.

والمشكلة الثانية الكبرى أن الورقة اعتمد في الربط بين MMR والتوحد على استبيان مع 12 أسرة فقط، وهذا عدد قليل جدا جدا، ولا يكفي للاستدلال على وجود ربط، ناهيك أن الاستبيانات الشخصية لا تكفي لكي تستخدم كدليل على وجود ربط سببي، فكيف للآباء أن يعرفوا أن هناك ربط مباشر بين التطعيم والتوحد، ولذلك اُنتقدت الورقة من الكثير من العلماء انتقادا شديدا، وحتى أن منظمة الصحة العالمية انتقدتها لأنها لم تثبت بالدليل القاطع هذا الربط، وانتقد علماء آخرين رئيس تحرير مجلة لانسيت لنشره المقالة الرديئة، ولكن حتى رئيس التحرير لم يوليها اهتماما.

اجتمع مجموعة من كبيرة من العلماء مع ويكفيلد حول ورقته لطرح بعض الأسئلة العلمية عليه، سألوه عن كيفية إقامته للتجارب على الأطفال، فذكر لهم أن فقط ذكر في الورقة القصص التي ذكرها له آباءهم، وأن الآباء هم الذين ربطوا بين التطعيم والتوحد، وفي نفس الوقت ادعى أنه لا يزال يقوم بالتجارب على أطفال آخرين، وكان عددهم 500 طفل، وحينما سألوه من أين أتى الأطفال أنكر أنهم جاءوا من أي جمعية مناهضة للتطعيم، وأنهم أحيلوا من أطباء آخرين، وهذا كان كذبا صريحا، بل الكثير منهم كانوا من الجمعية، وقد أحيلوا له من مكتب محاماة.

بعد ذلك طالب بعض العلماء من ويكفيلد أن يقدم لهم العينات التي عمل عليها حتى يتحققوا من صحة مزاعمه للربط بين فيروس الحصبة والتهاب الأمعاء، أقر لهم بأنه سيتعاون معهم، ولكن حينما طلبوا إرسالها لهم لم يستجب لهم، حتى العلماء الذين كانوا يعملون مع ويكفيلد حاولوا إقناعه بإرسال العينات، ولكنه لم يرسل أي منها، لقد أحرجهم تماما، لذلك حاول العلماء تكرار التجربة نفسها من خلال عينات من مرضى أخرين، فلم يجدوا نفس نتائج ويكفيلد.

وفي تلك الأيام استمر ويكفيلد في استقطاب الأموال لشركته التي سيؤسسها والتي ستنتج العقار الخيالي، جمع لها رأس المال كبداية 800,000 باوند، وفي هذا الصدد كان يخطط لنشر ورقة أخرى فيها الدليل القاطع على الربط بين MMR والتوحد، ومن ضمن المخطط أن الورقة ستجذب الأنظار إليه أكثر، وبهذا يتقدم آباء أكثر لرفع قضايا ضد الحكومة، وبذلك ستصبح شركة المحاماة غنية جدا، وبالإمكان تأمين مبلغ كبير لشركته التي يعمل على تأسيسها.

الانتقال إلى الجمهور العام

لم يتوقف ويكفيلد عن الدمار الذي ألحقه مع الصحافة، بل استمر في نشر أفكاره إلى عامة الناس من خلال السفر وإلقاء المحاضرات العامة في كل مكان، واستمر في الربط بين التطعيم والتوحد رغم أنه إلى الآن بم ينشر أي دليل على ذلك، وكلما نشر هذه الأفكار، كلما صدقه الكثير من الآباء، واعتبروه بطلا.

وفي تلك الأثناء قام بعض الأطباء من مستشفى رويال فري بدراسة مزاعم ويكفيلد للتأكد من صحة مزاعمه، لأنه هو ذاته لم يتحقق منها بعد، فجمعوا فريقا مكونا من مختصين في التطعيم، وأخصائيين أطفال، وإحصائيين، وجمعوا معلومات من 498 طفل، كانوا كلهم متوحدين، بعضهم أخذ التطعيم، وبعضم لم يأخذه، وفي دراسة المعلومات اتضح أن الذين أخذوا التطعيم كانوا بنفس سرعة تطور التوحد لديهم من الذين لم يأخذوه، وهذا يعني أن التطعيم لم يكن لها أي أثر في توحدهم، وكذلك فإن الفترة العمرية التي بدأت أعراض التوحد بالظهور سواء للذين أخذوا التطعيم أو لم يأخذوه واحدة، لقد ظهرت أعراض التوحد في الجميع بنفس الوقت. مرة أخرى لا علاقة للتطعيم في التوحد، وكذلك اكتشف العلماء أن فترة ظهور أعراض التوحد لم تتركز بعد فترة التطعيم، نشروا ورقة علمية في مجلة لانسيت، فأغضبت الورقة ويكفيلد كثيرا، فحاول الرد عليها وتكذيبها.

مع ذلك فكرة ويكفيلد انتشرت أكثر وأكثر، وتأثرت بريطانيا كثيرا، حيث انخفضت نسب التطعيم بعد ذلك، وزادت أمراض الحصبة، بعدما كانت التطعيمات تعطى بنسبة أعلى من التسعينات بالمئة وصلت 79%، وتعدت الفكرة حدود بريطانيا، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث دخل ويكفيلد إلى الكونغرس الأمريكي للإدلاء بشهادته ضد التطعيم. ونجح أيضا بنشر فكرته في الولايات المتحدة الأمريكية رغم أن العلماء الآخرين دحضوا آراءه التي لم تُبنى على أدلة.

بعد ذلك ظهر ويكفيلد على أشهر برنامج أمريكي ليتحدث عن فكرته، 60 minutes، ستين دقيقة، رغم أن البرنامج كان يطرح الفكرة وفي نفس الوقت يبين أنه لم تكن لدى ويكفيلد أي دلائل على فرضيته، إلا أن تأثير البرنامج على الولايات المتحدة كان هائلا، في البرنامج سألوا ويكفيلد ما إذا كان مستعدا أن يعطي التطعيم لأصغر أبنائه (أبناءه الأكبر أخذوا التطعيم في الصغر)، فذكر لهم أن غير مستعد لإعطائهم MMR، ولكن بشرط أن يكون كل تطعيم على حدة، ذكر ذلك الكلام، رغم أن في أبحاثه لم تكن هناك أي دلة نهائيا على فصل التطعيمات الثلاث عن بعضها.

في عام 2001، أنهت مستشفى رويال فري عمل ويكفيلد، خصوصا أنه رفض أن يقدم العينات التي لديه لإقامة الاختبارات عليها من جهة أخرى، وكذلك لأنه كان يروج لنفسه باستمرار في الصحافة والمؤتمرات، وكذلك لأنه دمر سمعة المستشفى، وبعد فصله من العمل ذهب مباشرة إلى الصحافة مرة أخرى ليشكو لهم إنهاء عمله.

في عام 2002، صرح بأنه وصل إلى الدليل القاطع على العلاقة بين التطعيم الثلاثي مع التوحد، وأنه فعلا وجد الفيروس في أمعاء 91 طفلا متوحدا، ونشر ورقة علمية في مجلة Molecular Pathology، وفي يوم من الأيام، نظر إليها الدكتور ستفين باستن (Stephen Bustin) عالم مرموق في تحليل الدي إن إي والآر إن إي، أراد معرفة مدى سلامة المختبرات المستخدمة في اكتشاف الفيروس في الأمعاء، ذهب إلى المختبرات ذاتها، اكتشف أنه لم تؤخذ أي احتياطات للتأكد من عدم انتقال الفيروسات من مختبر إلى آخر، ومن المعروف أن التلوث بإمكانه أن ينتقل على ملابس وشعر الشخص الذي يقوم بالتجارب (ملاحظة، راجع أولى حلقات السايوير بودكاست، كانت بعنوان الحياة الخالدة لهنريتا لاكس، ستعرفون كيف تنتقل الخلايا من مكان إلى آخر وتلوث أدوات الاختبار بسهولة مطلقة ما لم تأخذ المختبرات احتياطات شديدة)، لقد اكتشف باستن أن إجراءات سلامة مختبرات التي عملت على الربط بين فيروس الحصبة مع اللقاحات ثم مع التوحد كانت كلها ملوثة.

بعد ذلك ظهرت عدة دراسات جديدة منها في الدنمارك، وكانت على جميع الأطفال منذ عام 1991 إلى 1998 لم تجد أي ربط بين التطعيم والتوحد، بل أكدت دراسات أخرى في السويد، وفنلندا، وفرنسا على عدم وجود أي علاقة بينهما، بل الأقوى من ذلك، أحد الذين كتبوا البحث مع ويكفيلك الذي نشر في لانسيت عام 1998 أرسل رسالة إلى لانسيت، توسل إليهم بأن يلغوا الورقة السابقة لأن الأدلة الحالية والعالمية كلها تبين أن لا  علاقة للتطعيم الثلاثي مع التوحد، ولكن لم ترد لانسيت على طلب الدكتور.

أما عن القضية التي رفعتها شركة المحاماة عن أباء المتوحدين، فقد بدأت بالانهيار، لأنه ببساطة لم تكن هناك أدلة علمية لدى ويكفيلد تدعم القضية.

الكشف العميق

لم يعلم أحد ارتباط ويكفيلد بالأسر ولا بالجمعية المناهضة للتطعيمات، ولا بمكتب المحاماة، لذلك، لم يكشفه أحد بعد، وفي يوم من الأيام من فصل الخريف، تتبع المحقق الصحفي براين دير (Brian Deer) ورقة ويكفيلد المنشورة في لانسيت، واكتشف أن بها مجموعة من المشاكل، منها، أن الأسر التي أتت لويكفيلد كلها جاءت إليه في وقت واحد، ما الذي يجعلهم جميعا يأتون في نفس الوقت، هل كانوا مرتبطين مع بعض؟ بعد القليل من التحري، اكتشف أن ويكفيلد مرتبط بالجمعية المناهضة للتطعيم، وأنه أيضا مرتبط أيضا بمكتب المحاماة التي   يترافع عن أسر المتوحدين، وأن المكتب دفع له مبلغ 55,000 باوند من أجل إجراء التجارب، وهذا تعارض صريح، وبالرغم من ذلك لم يذكر هذا الأمر في الورقة العلمية، واكتشف أيضا أن بروتوكولات العمل لم تكن مقبولة في البداية من المستشفى التعليمي الذي كان يعمل لديه، وقد كذب ويكفيلد في ورقته لما ذكر أنها قبلت، خصوصا أن لم يوف بشروطها.

أقام دير مقابلة مع روزميري كيسك أم الطفل المتوحد، وسألها بعض الأسئلة، وإذا بها تصرح بتناقض كبير، في البداية ذكرت أن أعراض التوحد ظهرت على ابنها بعد أشهر من التطعيم والتحديد ظهرت بعد ستة أشهر، لقد كان هذا تناقضا صريحا مع ورقة ويكفيلد، حيث كتب فيها أن الأعراض بدأت بالظهور بعد أسبوعين من التطعيم.

بالإضافة لذلك اكتشف دير أن ويكفيلد كان لديه عدد 18 طفل آخر الذين أخذ استبياناتهم من آبائهم لم يذكر أي منهم في الورقة، وقد ذكر أباؤهم له في الاستبيان أن لا علاقة للتطعيم مع التوحد، ولكنه لم يرفق هذه المعلومات في البحث، بإزالة الـ 18 استبيان أصبحت نسبة الذين ذكروا أن أبناءهم أصيبوا بالتوحد 66%، ولكن إذا أضيف عدد 18 طفل آخر، تصبح النسبة الصحيحة 12% فقط، وهذا يضرب بعرض الحائط كل فكرة نشرها ويكفيلد عن ارتباط التطعيم بالتوحد، وحتى لو كان ذلك الارتباط مبني على شهادة الآباء والتي تعتبر شهادة غير علمية ولا تجريبية.

حاول دير التواصل مع ويكفيلد لمقابلته، ولكنه ويكفيلد علم بتحريه لموضوعه، ورفض مقابلته.

توجه دير إلى اللانسيت ليواجههم بهذه المعلومات، ولما أخبرهم بها صدم رئيس التحرير من هذه المعلومات، وأحرجه كثيرا.

وفي مكان آخر واجه الصحفيين المرتبطين مع دير ويكفيلد، ووجهوا له الأسئلة عن كل التناقضات والمعلومات التي أخفاها، أعترف ببعضها، وخصوصا إخفائه لمعلومات بعض الأطفال الذين لم تتوافق معلوماتهم مع فرضيته، وكذلك صرح عن ارتباطه بمكتب المحاماة، وكذلك اعترف أنه أخفى هذه المعلومات حتى عن زملائه الذين كان يعملون معه، ومع ذلك كله، لم يندم على فعل فعله، بل أصر أنه على حق.

وفي مقابلة بعد ذلك أصبح ويكفيلد وزملاءه في مواجهة مع مدير التحرير في مجلة لانسيت، هناك بدأت خيوط الفضيحة تتكشف أمام زملاء ويكفيلد، صدم بعضهم من الأشياء التي أخفاها عنهم، لم يعلموا بموضوع ارتباطه مع مكتب المحاماة، بل إن بعض الرسائل التي بعثها لمكتب المحاماة حتى قبل نشر ا لورقة تبين انحياز ويكفيلد ناحية اكتشاف دليل على العلاقة بين التطعيم والتوحد، حتى قبل أن تنشر وقبل أن تحكم ورقته، وقبل أن تثبت فرضيته.

قرر مدير التحرير سحب الورقة العلمية، لأنها فعلا خالفت اللوائح، وكتبت مقالة تبرر فيها سحب الورقة، بعد أن تبين أنه لا وجود لعلاقة بين التطعيم الثلاثي والتوحد، وقع الجميع على الورقة بما فيهم زملاء ويكفيلد، ولم يوقع ويكفيلد عليها.

كتبت مقالة في الصاندي تايمز عن تحقيق دير، وكشف فيها أيضا أن هناك ما هو أكثر ثقلا من المبلغ الذي حصل عليه ويكفيلد لإجراء تجاربه، لم يكن المبلغ حوالي 55,000 باوند، بل كان حوالي 440,000 باوند، والدناءة لم تنته عند هذا الحد، بل إن بعد مراجعة معلومات التجارب على الأطفال اكتشف دير أن ويكفيلد زور المعلومات حيث أن الورقة العلمية كانت تحتوي على معلومات مناقضة لما كان مسجلا في التجارب.

رفع ويكفيلد قضية على دير والصاندي تايمز، وفي يوم الدخول إلى المحكمة جهز دير كل هذه المعلومات، ولكن بمجرد معرفة ويكفيلد بهذا بالمعلومات التي ستكشف ذهب مسرعا إلى المحكمة، وأوقف القضية، ودفع أتعاب المحاماة، حتى لا تكشف أسراره التي خبأها طوال هذه المدة.

بعد ذلك وفي عام 2007 شهد المحقق في سلامة المختبرات Stephen Bustin في الولايات المتحدة الأمريكية على طريقة ويكفيلد في إجراء الاختبارات على العينات المأخوذة من الأطفال، لقد أوضح أن هذه العينات كانت ملوثة، بل بينت التقارير أنه إذا أجرى ويكفيلد تجربتين على العينات، وظهرت الأولى بأنها إيجابية، أي أنها كانت تحتوي على الفيروس، ثم أظهرت تجربة الثانية على نفس العينة أنها لا تحتوي على الفيروس سجل ويكفيلد النتيجة على أن العينة أظهرت فيها الفيروس، وهذا تزوير آخر للاختبارات التي كان يقوم بها ويكفيلد، بل تبين أن كل تجاربه لم تكن بالدقة المتعارف عليها في هذا النوع من التجارب.

بعد صدور المعلومات كاملة عما قام به ويكفيلد، وبعد قضائه 10 سنوات في نشر الإشاعات، بدأت محاكمته من قبل المجلس الطبي البريطاني، وفي أثناء المحاكمة كل ما كان بإمكان ويكفيلد القيام به هو محاولة ثني الكلمات لصالحه، كان يبرر بإعادة تعريف الأشياء للتواءم مع ما قام به، كان يناقش معاني الكلمات، ماذا تعني كلمة “المسؤولية الطبية” أو “شروط” أو “مارس” أو “المشاركة” كل هذه الكلمات كانت في أوراقه، ناقشها حتى يبين أنه كان يقصد شيئا آخر بها، وذكر أن اللغة الإنجليزية غامضة وغير دقيقة.

أما عن أخلاقيات العمل، فقد ناقش ويكفيلد موقفه بأنه هو المقياس لما هو صحيح أو خاطئ في عمله الطبي، وبعد ذلك كشفت المحكمة أن ويكفيلد أخذ عينات من الدم من الأطفال أثناء حفلة عيد ميلاد، وهذا يعد عملا لا أخلاقيا، حيث يؤثر على نفسيات الأطفال المتوحدين كثيرا، وكشفت عن إعطاء الطفل 10 مادةTransfer Factor  غير المجربة، والتي لم يخبر بها المستشفى، وكشفت أن الأطفال الإنثى عشر لم تنطبق عليه شروط الاختبارات، فبعضهم لم يكن مصابا بالتهاب في الأمعاء ، وبعضهم لم يكن متوحدا، وحاكموه أيضا لجميع أساليب الخداع التي ذكرتها سابقا من تعارض في العمل، والأموال وما إلى ذلك.

في عام 2010، بعد انتهاء المحاكمة الطويلة، وجهت له التهمة بأنه مذنب في سوء السلوك المهني الخطير، أقر المجلس الطبي إزالة ترخيصه الطبي مع إزالة اسمه من السجل الطبي، حيث لا يحق له العمل كطبيب في بريطانيا بعد ذلك، أضف لذلك أن اللجة أيضا سحبت ترخيص زميله والكر، لأنه أيضا خالف اللوائح، ولكنه استطاع استرجاعه بعد عدد من المرافعات.

خرج ويكفيلد من القاعة، وتوجه للجمهور حيث يشعر بالأمان، بعد عشر سنوات من غسيل الدماغ التي أجراها عليهم من خلال نشره لأفكاره الزائفة، هناك حيث اجتمع الناس، ارتفعت أصوات التصفيق، وارتفعت اللافتات التي تقف معه وضد المحاكمة، وقف ويكفيلد بارزا واثقا من نفسه بينهم، وبرر موقفه، وذكر أن اللجنة وجهت له اتهامات مزورة. لم يعتذر للأسر، لم يعتذر لعامة الناس، ولا للأطفال الذين أقام عليهم التجارب اللا أخلاقية، ولم يعتذر لتعامله بالخفية مع مكتب المحاماة، ولم يعتذر للمبالغ التي حاز عليه، بل والأهم من ذلك لم يعتذر للأطفال الجدد الذين أصيبوا بالحصبة ومرضوا منها أشد المرض، أو ماتوا، لم يعتذر لأكونه السبب في موتهم، لم يعتذر أبدا.

هل توقف ويكفيلد بعد ذلك من نشر إشاعاته؟ لا أبدا، بل بعد أن كانت فكرته عدم الجمع بين التطعيمات الثلاث حتى لا يصاب الطفل بالتوحد، تحولت الفكرة تدريجيا إلى أن التطعيمات بشكل عام تصيب بالتوحد، بل أسوء من ذلك، بعد ظهور فيروس كورونا وانتشاره عالميا، أصبحا مناهضا للتطعيمات بشكل عام رغم أنه لم يُجري تجربة واحدة عليها، ولا يمتلك دليلا واحدا ضدها، كل ما يمتلكه هو أدوات نشر الإشاعة والكذب.

رغم أنه فقد رخصته الطبية، وفقد مصداقيته واحترام العلماء له، أصبح ثريا من وراء هذه الفكرة، وعاش في بيوت مليونية، وخالط المشاهير من ممثلين وممثلات وأصبحت السوبر مودل Elle Macpherson صديقته Girlfriend حتى عام 2021. وأنتج فيلم عن نفسه، ثم سحب، وأعطي الفرصة لكي ينشر أفكاره الزائفة في البيت الأبيض بطلب من ترامب.

وإلى يومنا هذا الحركة المناهضة للتطعيمات مستمرة، من غير علم بتفاصيل كذبة ويكفيلد، واليوم بدلا من ويكفيلد واحد، لدينا ملايين النسخ منه، كلهم يرددون نفس الفكرة من غير دليل، وفي الوقت الذي ينشرون الإشاعات عن التطعيم، ويخوفون الناس منه، يساهمون بطريق غير مباشر في مرض وموت الكثير منهم، بلا أي اكتراث، كل ذلك من بسبب كذبة كبيرة أسس لها رجل واحد اسمه أندرو ويكفيلد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى