Uncategorizedعلمفلكفيزياء

SW074 لماذا نعد النجوم؟

إذا كنت تريد أن تبني سفينة، لا تحشد الرجال لجمع الحطب ولا لتقسيم العمل وإصدار الأوامر، بدلا من ذلك  علمهم الاشتياق لاتساع ولا نهائية البحر

أنتوان دي سانت-إيكزوبيري (Antoine de Saint-Exupéry)

لماذا نعد النجوم ؟

ليس هناك سؤال يجيش مشاعري ولا يشعل كل خلايا مخي بقدر السؤال الذي يتساءل عن أهمية بعض النتائج العلمية، ويأتي مثل هذا السؤال على عدة أشكال ولكن بمضمون واحد، فمثلا من الممكن أن يكون السؤال كالتالي: “العلماء صرفوا المليارات على المصادم الهدروني الكبير، فما الفائدة؟” أو “ما الفائدة من إنزال مركبة على المريخ، أليس من الأفضل التركيز على حال البشر على الأرض بدلا من صرف المليارات على شيء لا فائدة منه؟” أو كالسؤال الذي وصلني على التويتر بعد أن طرح صديقي المعلومة التي تقول أن الشمس تستطيع استيعاب مليون و٣٠٠ ألف كوكب بحجم كوكب الأرض حتى تمتلئ الشمس ثم ألحقها بعدد النجوم في درب اللبانة، وهي 200 مليار نجم، فسأله أحد الأصدقاء هذه السؤال: “ماذا نستفيد من هكذا معلومات؟؟ قضينا وقتا بإحصائها وماذا بعد؟” أنا أشكر السائل من كل قلبي لأن السؤال مهم جدا، ومن المهم الإجابة عليه حتى تتضح أهمية العلم.

لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!

قد تتصور أن مثل هذه الأسئلة تطرح بين عامة الناس، ولكن الحقيقة أنها تطرح حتى على المستوى السياسيين المتخذي للقرار والعلماء، وهي تؤثر على مزانيات صرف الدول على الأبحاث العلمية، وقبل أيام بقليل قام العالم الشهير في الفيزياء الفلكية تايسون نيل ديجراس (Tyson Neil Degrasse) بالشهادة أمام مجلس الشيوخ عن أهمية زيادة الصرف على ناسا، وذلك النقاش هذا فتح بسبب الوضع الإقتصادي العالمي، فتحدث كعادته بفصاحة علمية رائعة، وبدأ بالجملة التي ذكرتها في البداية، وبين أهمية وكالة ناسا، وببلاغته بين أهمية العلم ككل في رفع مستوى الأمم.

بالتعاون مع شبكة أبو نواف أقدم لكم هذه الحلقة من السايوير بودكاست شبكة أبو نواف تقدم مواد ترفيهية وأخرى هادفة، ولاهتمامهم بتقديم مواد مفيدة وبناءة ترسل لكم السايوير بودكاست من ضمن باقتها المنوعة، ليصل البودكاست لمسامع أكبر عدد من أفراد العالم العربي.

مشكلة الصرف

المليارات تصرف سنويا على العلم، قم بجولة صغيرة على الأخبار العلمية سواء من أمريكا أو من الدول الأوروبية أو من اليابان أو غيرها، وستعرف حجم الميزنيات الموجهة للعلم، تايسون نيل دي جراس يقول أن لكل دولار من الضريبة الأمريكية نصف بالمئة تصرف على ناسا، رقم مهول وإن كان يطالب الحكومة الأمريكية في أن ترفع هذه الميزاية بقدر 1 المئة، فعلى سبيل المثال كانت ميزانية ناسا لعام 2011 هي 18 مليار دولار، وللعلم يعتبر ذلك انخفاضا منذ سنة 1993، حيث كان الصرف يشكل 1% من الدولار، ولكن وصل إلى النصف بالمئة من الدولار قبل سنوات، وفي هذه السنة أصبح أقل من النصف.

هناك من يتساءل لماذا نصرف مبالغ طائلة لكي نرسل مركبة فضائية إلى القمر أو المريخ، ولماذا نصرف المليارات على المصادم الهادروني الكبير الذي هدفه هو الكشف عن أسرار لمكاونات صغيرة جدا لا أثر لها على حياتنا الشخصية، ولماذا يقوم العلماء بإحصاء الكواكب والنجوم والمجرات، لنقل أننا علمنا أن في مجرتنا هناك 200 مليار نجمة، وأن هناك مليارات من النجوم في كل مجرة، وهناك مليارات من المجرات، أو أن هناك أكثر من 10 مليارات كوكب شبيهة بالأرض يمكن للحياة العيش عليها، لو علمنا أن الشمس بحجمها الكبير يمكنها استيعاب 1,300,000 كرة أرضية، وأن هناك نجم اسمه في واي كينس ماجوريس يستطيع أن يستوعب 7 مليارات شمس مثل شمسنا لكبر حجمه، ما الفائدة إذا علمنا هذه المعلومات، ماذا بعد؟ نحن بعيدون عن هذه المجرات إلى درجة أنه لا يمكن الوصول لها بأي وسيلة صاروخية نعرفها اليوم، ويبدو أننا نصرف على ما لا يعود علينا بالنفع، مشاكل الأرض كثيرة، بدلا من أن تصرف هذه المبالغ على الفضاء اصرفها على الفقراء، إصرفها على علاج القضايا الإقتصادية الحالية، أصرفها على إطعام البشر، وهكذا القائمة لا تنتهي.

ما قد لا تحس به هو أن من خلال  صرف الدول لهذه الكميات الهائلة من المبالغ – سواء على ناسا أو على المصادم الهدروني الكبير أو على أي مشروع لا تشعر بقيمته – قاموا بإطعام البشر وبعلاجهم من الأمراض وبتحسين الإقتصاد، وبشكل عام رفع العلماء الكثير من المعاناة من البشر وبذلك ازدهرت الحياة على الأض، ولكن المشكلة أن البشر بطبيعته يستعجل، ويريد الحلول المباشرة التي يراها أمام عينية، يريد إشباع لحظي، والمشكلة الأخرى أن البشر لا يضع أي تقدير للمميزات التي يلمسها يوميا في حياته التي تسبب العلماء فيها،  لأنه ببساطة تعوّد على وجودها حوله، فأصبحت كالرائحة الجملية التي اعتاد على اسنتشاقها فلم تعد تؤثر، ولذا سأبين أهمية العلم وأهمية النظر في السماء سواء على مستوى عد النجوم أو على مستوى الصرف على المصادم الهدروني الكبير الملياري أو ما شابه.

ناسا والنجوم

ناسا دائما تتحفنا بمعلومات كثيرة، وذكرت بعضها، يبدو وكأن ناسا أصبحت أداة لدغدغة المشاعر لا أكثر فما الفائدة من مؤسسة تصرف المليارات للتسلية؟ للإجابة على هذا السؤال تحتاج لأن تتوجه لموقع ناسا لترى بعض النتائج لإختراعات التي حسنت من وضع البشر على الأرض، وتسمى هذه بكلمة “ناسا سبين أوفز” Nasa Spinoffs [1]Nasa Spinoffs ، ولها مجلة تعرض فيها الفوائد التي تعود بها ناسا على المجتمع من خلال أبحاثها الفضائية، سأذكر بعض هذه الفوائد، منها ما ساهمت به ناسا مباشرة، ومنها ما طورته، ومنها ما تعمل عليه الآن لتعم الفائدة في المستقبل، لنبدأ:

  • الثيرمومتر الذي يعتمد على الأشعة التحت الحمراء، لابد أنك تعرف هذا النوع من الثيرمومتر، لأنه موجود في كل مستشفى وفي كل صيدلية وهو يستخدم للكشف عن حرارة المريض مليارات المرات سنويا، هو النوع الذي يوضع في الأذن وهو يعمل بنفس الطريقة التي تستخدمها ناسا لقياس حرارة النجوم في الفضاء، حينما يسأل أحدهم ما الفائدة من معرفة حرارة النجوم البعيدة في السماء؟ لابد أن يفهم أن لقياس درجة حرارة النجوم احتاجت ناسا أن تطور طريقة لقياسها عن بعد، واعتمدت على الأشعة التحت حمراء، ومنها قامت بتطوير الثيرمومتر، وبهذا الثيرمومتير أصبحت قياس درجات الحرارة من أسهل ما يكون، وخصوصا للأطفال، حاول أن تقيس درجة حرارة الطفل بالأدوات التقليدية لتعرف حجم المعاناة، إذن، بالنظر إلى النجوم لمعرفة درجات حرارتها تمكن العلماء من تطوير الثيرمومتر.
  • بمساعدة من ناسا تم اختراع مضخة للقلب للناس الذين ينتظرون رزاعة القلب، هذه المضخة صغيرة وتعمل لـ 8 ساعات على البطارية، وتسمح للمريض التحرك براحة إلى أن يتم استبدال قلبه.
  • بسبب العمل على الروبوتات والعضلات الصناعية للروبوتات استطاعت ناسا من تطوير أطراف صناعية للمبتورة أعضاؤهم، وطورت هذه الأطراف لتكون مناسبة من حيث المظهر للذي يلبسها، فتبدو وكأنها طبيعية، وهي تقلل أيضا من الاحتكاك بين الجسد والطرف الصناعي حتى لا يتضايق المستخدم.
  • بسبب المركبة الفضائية الفايكنج التي نزلت على المريخ احتاج العلماء لمظلة قوية لإنزال المركبة، بالمساعدة من شركة جود يير التي تصنع العجلات  وبعقول من ناسا طُورت المظلة باستخدام مواد ليفية كانت أقوى من الفولاذ بخمس مرات، واليوم تستخدم شركة جود يير هذه المواد لعجلات السيارات بحيث تستطيع أن تسير على الشارع لمسافات أطول قبل تآكلها.
  • حينما أرسل التليسكوب هبل إلى السماء سنة 1990 – ذلك التليسكوب الذي أتى بصور مذهلة، وأرانا أن بعض تلك النقاط في السماء إنما هي مجرات –  ذلك التليسكوب بدأ مسيرته بخطأ في العدسة، فحينما أرسل إلى السماء وبدأ بتصوير الفضاء، اكتشف العلماء أن الصور لم تكن واضحة بسبب خلل في المرآة الرئيسية، فما الفائدة من إرسال تليسكوب قيمته 2 مليار دولار ولا يمكنه أن يصور صور دقيقة؟ صور العلماء الفضاء الخارجي ولمدة 3 سنوات إلى أن أبدلوا العدسات في الفضاء الخارجي، ولكن لم يرموا الصور في القمامة خلال تلك السنوات الثلاث، فطورا برمجيات تخفف عدم الوضوح في الصورة وتعوض خلل تأثير المرآة بحيث يمكن الاستفادة من هذه الصور. ثم اكتشف لاحقا أن نفس هذه المشكلة (مشكلة عدم الوضوح في الصور) كانت موجودة أيضا في صور الأشعة لأمراض سرطان الثدي، فتعاونت ناسا مع علماء آخرين لتطوير برامج يمكنها توضيح صور الأشعة وبالتالي تمكن العلماء مع تشخيص مرض السرطان بشكل أفضل، واليوم أنقذت ناسا الكثير من النساء من حول العالم بسبب محاولاتها لرؤية النجوم، وللعلم عملية عدد النجوم هي إحصائية، وواحدة من الأدوات في تقدير عدد النجوم والمجرات كانت تعتمد على التليسكوب هبل.
  • بينت في الحلقة السابقة أن ناسا تطور الآن كبسولات لغرسها في جسم رائد الفضاء، فإذا انطلق رائد الفضاء إلى المريخ وأصابه المرض ولم يكن مع طبيب فلا يمكن علاجه، البديل هو أن تكون الكبسولة هي الطبيب المشخص والعلاج، حيث ستستشعر الكبسولة المرض، وتتفتت وتنتشر في الدم، وتعالج الجسم مباشرة، صحيح أن هذه الأفكار بإمكان تطبيقها على رواد الفضاء، ولكن بالإمكان تطبيقها على مرضى السكري، إذن حينما يفكر الإنسان في السفر في الفضاء لابد أن يفكر في علاج مشاكل السفر، ومن خلال محاولة العلاج أثناء السفر، يمكن معالجة الناس في الحضر.
  • أضف لذلك المرايات الجديدة التي تعمل عليها ناسا، التليسكوبات تستخدم عدسات، وتواجه ناسا مشكلة في صناعة عدسات دقيقة جدا، وعادة ما تكون هذه العدسات مشوهة حينما ينظر لها بالميكروسكوب، وذلك يؤثر على الضوء الذي يأتي من نقاط بعيدة جدا في الكون مما يجعل من الصعب تمييز هذه النقاط الصغيرة، وبما أن من الصعب تقليل التشوه في العدسة قامت ناسا بتطوير طريقة أخرى، وهي مرايات يمكن التحكم بسطحها، بحيث يتم رفع وخفض نقاط مختلفة من المرايات لتتناسب مع تشوه العدسة فتعوض التشوه الناتج، مثل هذه التكنولوجيا لابد أن يوما ما ستنتقل  إلى الكاميرات التي تستخدمها شخصيا، ولا أحد ينكر أهمية التصوير في الكاميرا، فالكل أصبح صحفيا يحمل الكاميرا ويصور الأحداث من حوله، فأصبح من الصعب على الحكومات إخفاء جرائمها، والثورات العربية أصبحت أكثر شفافية.

هذا جزء بسيط مما قدمته ناسا للبشرية من خلال محاولته الفهم النجوم في الكون ، وعلى عجالة أذكر ما ذكره تايسون نيل دي جراس في كتابه “وقائع الفضاء” Space Chronicles: Facing the Ultimate Frontier [2]Space Chronicles: Facing the Ultimate Frontier من مخرجات أو مساهمات ناسا: جهاز غسيل الكلى، جراحة الليزك، جي بي إس، أصباغ مقاومة للتآكل للجسور والتماثيل، أنظمة الزارعة المائية، أنظمة تفادي التصادم في الطائرات، التصوير الرقمي، الكاميرات التحت الحمراء المحمولة، أحذية رياضية، عدسات شمسية غير قابلة للخدش، الفوم الذي يتذكر (Memory foam) (المستخدم في المخاد والفرش)،  فلاتر الماء، أجهزة اتصال بعيدة المدى، وعصير تانج.  هذه نتجت من ناسا أو من خلال التلاقح العلمي بين ناسا وبين مؤسسات وشركات خارجية.

عدد الكواكب والنجوم ليست إلا نتيجة من النتائج والتي تترتب عليها نتائج وليست هي الغاية النهائية، من صلب السماء تكتشف قوانين رياضية وفيزيائية وهذه القوانين تطبق في كل نواحي حياتك، فقوانين نيوتون وقوانين آينشتين وكل القوانين الفلكية هذه تجد لها تطبيقا مباشرا في حياتك.

المصادم الهدروني الكبير

في مناقشتي للنظر في النجوم اخترت ناسا، لأنها هي أكثر المؤسسات الفضائية وضوحا، ولكن لا يعني ذلك أن المؤسسات الأخرى أقل شأنا منها، وهناك أيضا مؤسسات علمية لا تنظر للنجوم، إنما تنظر إلى ما بداخل الذرة، الكل يعرف عن المصادم الهدروني الكبير، وهو المعجل للجسيمات الموجود بين فرنسا وسويسرا، صرف على هذا المعجل مليارات الدولارات وقام على إنشائه آلاف المهندسين والعلماء، وقضوا عليه وقت طويل إلى أن اشتغل وبعد فشل اشتغل المصادم الهدروني الكبير، قدر الطاقة الذي يستهلكه المصادم الهدروني الكبير هو 120 ميغا واط، ويعادل ذلك 1,200,000 لمبة تستهلك 100 واط، كل ذلك لتعجيل الجسيمات الصغيرة ولاكتشاف ما بداخلها، أليس من الأفضل تحويل هذه الكهرباء للفقراء وإضاءة بيوتهم فيها، أو لتشغيل سخان بدلا من أن يموت من البرد؟ ما الفائدة من معرفة مكونات الكون الصغيرة؟

أتذكر كنت أستمع للبودكاست الساينس فرايدي، فسأل مقدم البرنامج آيرا فليتو سؤالا لأحد العلماء من سيرن (الذين يعملون في المصادم الهدروني الكبير) عن فائدة النتائج التي ستأتي بها هذه التصادمات، فأجاب بأنه لا فائدة منها، أي لا فائدة مباشرة نستفيد منها اليوم أبدا، فعلا، منطق الإشباع اللحظي أو النتائج المباشرة يناسب كل من لديه ضيق أفق ونظرة قريبة المدى.

تعال واسأل هذا السؤال حينما أسس آينشتين للنظرية النسبية في بداية الـ 1900، ولنسأل أينشتاين ما الفائدة من نظريته هذه؟ نظرية تبين أن الوقت نسبي، وإن؟ أتفق أن المعلومة شيقة وغريبة، ولكن لا نستفيد منها مباشرة، قصة جميلة، اركب بمركبة فضائية وانطلق بسرعة قريبة جدا من سرعة الضوء، وارجع إلى الأرض مرة أخرى بعد يوم، ستجد أن الأرض وسكانها تقدموا مليون سنة، فعلا معلومة غريبة ومثيرة، والآن لنكمل حياتنا اليومية، انتظر… توقف، حياتك اليومية تتأثر بهذه المعلومات وبرياضياتها مباشرة، لولا النظرية النسبية لما كان هناك شيء اسمه جي بي إس (GPS)، ولولا النظرية لكان من المستحيل تحديد موقعك بدقة.

تعال واسأل بور وشرودنيجر وهايزنبيرج، ما الفائدة من الميكانيكية الكمية؟ وما الفائدة من معرفة غرابة العالم المنتاقض؟ إلكترون يحتمل أن يكون في كل مكان، ولكن بعد القياس ينهار في مكان واحد، فوتون – في تجربة الشقين – يعبر من شق، ويعبر من شقين، ولا يعبر من أي من الشقين، كيف؟ المستقبل يؤثر على الماضي بدلا من أن يؤثر الماضي على المستقبل، معلومات في منتهى الغرابة، ولكن ما الداعي لها؟ ولماذا تقام عليها التجارب المليارية حتى تثبت صحتها؟ اصرف الأموال على إطعام الفقير.

لولا النظريات التي صدرت من هؤلاء العلماء لما كنت تحمل جهاز إلكتروني واحد في يدك، ولكان هذا الهاتف النقال الذي في يدك بحجم منزل كامل، لأن الإلكترونيات الدقيقة تحتاج إلى أجهزة دقيقة وترانزيستورات صغيرة، ولو النظريات التي أسستها الميكانيكية الكمية لما عرف العلماء كيف تتحرك الإلكترونات والثغرات ولا عرف العلماء حدود تلك التروزيستورات، بها صنعت الكمبيوترات التي استخدمت لفهم الأمراض ولتحليلها، وبها طور العلماء الميكروسكوبات الدقيقة التي استطاع بها فهم تركيبة الخلايا وبها استطاع أن يطور الغذاء ليغذي مليارات من البشر، أضف لذلك أن التناقضات التي عرفها العلماء في عالم الميكانيكيا الكمية أسست لمبادئ الكمبيوتر الكمي والذي سترى نتائجه في السنوات القريبة القادمة، كمبيوترات لها قدرة على حساب عمليات رياضية معقدة، وبها يمكن فهم عالمنا بشكل أفضل، ومنه يمكن أن نفهم المناخ الذي يحتاج لكمبيوترات في منتهى السرعة، ومنه يمكن تحليل الكثير من القضايا المستعصية على الكمبيوترات الحالية، ومنها إلى تحسين المستوى المعيشي البشري. أضف لذلك لولا هذا الفضول في أصغر الأجسام لما كانت هناك صناعة قائمة عليها، والصناعة توفر للبشر الوظائف، وتساهم في الإنتاج، وتقوية الإقتصاد.

إذن، حينما يتساءل الناس عن عدد النجوم في السماء أو حركة الإلكترونات في الذرة، انتبه – ذلك يحتاج لتسخير عدد كبير من العلماء الأذكياء  القادرين على تطوير أجهزة في غاية التعقيد مثل التليسكوبات والأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية وأجهزة القياس والكبميوترات وكذلك يحتاج العلماء لتطوير قواعد الرياضيات والفيزياء  وغيرها من الأمور، وبالتالي تفتح أبواب جديدة، وتنتج نتائج مباشرة تؤثر على حياة البشر، أفقد هذا السؤال، إفقد هذا الفضول، افقد هذا الطموح وستفقد العلماء وستفقد كل هذه القوانين الرياضية الفيزياء، إفقد هذه الأسئلة إفقد حلم أمة، إفقد أمة، فتأمل.

الأمل والطموح

لماذا أنت تصلي وتصوم وتحج أو تقوم بعباداتك على حسب ديانتك أي كانت؟ لأن هناك وعد من الله أن تدخل الجنة أو هناك وعود أخرى تأمل أن تحوز عليها من خلال دينك، هذا الوعد لم تره ولم تلمسه ولم تشمه، وكما جاء في الأحاديث الشريفة أن الجنة لا يمكن لك حتى أن تتخيلها عوضا عن الإحساس بها في الدنيا، تعزيز هذا النوع من الأمل هو دافع هائل في تحريك الإنسان إلى درجة تصل إلى التضحية أو إلقاء النفس في التهلكة من أجل هذا الأمل، وهذه هي خاصية إنسانية وترتبط بالمخ مباشرة، هناك دراسة تبين كيف أن الأمل هو الدافع للعمل.

أجريت هذه التجربة على القرود، التجربة كانت كالتالي، حينما يضغط القرد على مقبض يحصل على الجائزة (وفي حالة القرد الجائزة هي الطعام)، وحينما يضغط القرد على المقبض بعدد من المرات يحصل على الجائزة، قاس العلماء نسبة الدوبمين في المخ، فلاحظوا أن النسبة ترتفع قبل أن يبدأ القرد بالضغط على المقبض، وليس عند استلام الجائزة (وعلى عجالة، مادة الدوبامين لها علاقة بالسعادة، ولها علاقة بالتعلم المدفوع بالجائزة، وهي مادة تفرز في المخ) الدوبمين ينطلق في المخ بسبب توقعك في الحصول على السعادة وليس بعد حصولك على السعادة، هنا فارق مهم، التجربة على القرد تبين أن حينما يتوقع أن يحصل على الجائزة تفرز مادة الدوبامين في مخه، وليس حينما يستلم الجائزة، أي أن السعادة تحصل حينما يكون هناك طموح للحصول على الجائزة، وليس حين الحصول عليها.

قرر العلماء تغيير التجربة قليلا، بدلا من أن يعطوا القرد الجائزة في كل مرة يضغط فيها على المقبض، أعطوه الجائزة خمسين بالمئة من المرات التي يضغط بها على المقبض، وبشكل عشوائي، فلا يدري القرد في أي المحاولات للضغط سيحصل على الجائزة، اكتشف العلماء أن كمية ضخ الدوبمين في المخ ترتفع بشكل أكبر بكثير من السابق، وهي أكبر مما لو حصل القرد على الجائزة في كل مرة، في التجربة الأولى القرد ضمن الجائزة، في التجربة الثانية كانت نسبة الضمان 50%.

السبب في زيادة نسبة الدوبمين يعود لأن النتيجة أصبحت غير مضمونة، ربما تحدث ربما لا تحدث، وحسب ما يقول د. روبرت سابولسكي (Robert Sapolsky) العالم في علم الأعصاب: “أنت أدخلت كلمة ’ربما‘ في المعادلة، وكلمة ’ربما‘ تسبب الإدمان بشكل كبير”، وهذا الشيء ينطبق على الإنسان تماما حسب ما ذكر سابولسكي، ويقول أنه حينما تفصل بين الجائزة والعمل، وتجعل بينهم فارق زمني فإن مستويات الدوبمين ترتفع عند الإنسان، فيقول تخيل أنك تبدأ بالمدرسة منذ الصغر ولديك طموح كبير في أن تصبح شيئا ما في المستقبل، فتذاكر جيدا، وتقدم اختبارات جيدة، وتقدم على جامعات جيدة إلى أن تصل إلى غاياتك في العمل في مكان تحبه، فالإنسان يستطيع أن يبقي على مستويات الدوبامين في المخ بشكل عالي جدا انتظارا للجائزة في المستقبل البعيد، وهذا اختلاف من الاختلافات بين الإنسان والحيوان، وهو الاستعداد للانتظار على أمل أن يتحقق الشيء حتى لو كان الفارق الزمني كبير.

لربما جردت أحاسيس السعادة بطريقة علمية وجعلته مواد كيميائية تفرز في المخ، ولكن دعك عن الدوبمين، لنتحدث عن المشاعر التي تحس فيها حينما ترى النجوم، النجوم بالذات نظر لها الإنسان وحاول أن يفهمها على مر التاريخ، والإنسان بطبيعته يحب الاكتشاف، ولذا ترى أنه تحرك على الأرض والبحر وسافر وقطع مسافات شاسعة بداية بالمشي على الأقدام ثم باستخدام الحيونات إلى السيارات والطائرات، وغاص في أعماق البحر ليشكف عن أسراره، وحطم الجسيمات الصغيرة من أجل أن يكتشف ما بداخلها، ونظر إلى السماء في عمق الكون لاكتشاف أسراره، محاولة الاكتشاف والأمل والطموح تشعره بالسعادة، وتجعله يعمل من أجل تحقيق هذه الطموحات العالية البعيدة المنال، إذن الأمل دافع للعمل.

ومن نتائج  الأمل والطموح والاكتشاف انتفاع البشر، فترتفع معاناتهم وتزدهر حياتهم، وهذه القصة معروفة، وأنت تحس بها يوميا وإن كنت لا تقدر الجهد العظيم الذي بذله العلماء الفضوليون المكتشفون، القصة عرفت حينما اكتشف الإنسان الأرض، ولا زلنا في بدايتها، القصة لا تنتهي باكتشاف الأرض والبحار التي فيه، القصة تتكامل حينما يكتشف الإنسان النجوم والكواكب الأخرى (ذلك البحث القديم)، وسيكون لدينا يوما ما كريستوفر كولومبس آخر يرحل في الفضاء ويكشتف أماكن أخرى يمكن للإنسان العيش فيها، وتدريجيا سيمتلك الإنسان المجرة وربما الكون كله)، هنا تنتهي القصة وتكتمل.

قبل أيام غاص جيمس كاميرون إلى أعمق نقطة في الأرض، وهي موجودة في قاع البحر، وأتى من هناك ليخبرنا عن بعض التفاصيل لما رآه في القاع، وبكلمات بسيطة مرصعة بمشاعر إنسانية استطاع أن يرسل أمواج من الأحساسيس حول العالم، وكما قرأت في أماكن مختلفة على الإنترنت أن تلك الأحاسيس بدأت تحرّك العلماء من أجل استكشاف الأعماق، وإذا ما عدنا للكلمة التي بدأت بها البودكاست: “إذا كنت تريد أن تبني سفينة، لا تحشد الرجال لجمع الحطب ولا لتقسيم العمل وإصدار الأوامر، بدلا من ذلك  علمهم الاشتياق لاتساع ولا نهائية البحر”، هكذا هو الإنسان، حينما تريد منه أن يقوم بمهمة، فعليك بتحفيزه، عليك بإشعال خياله، كلما اتسعت عنده فسحة الأمل كلما عمل أكثر وأتى بنتائج أفضل، إذن حينما نتطلع إلى النجوم فإما أن نصل لها أو ما دونها، وأتوقع أننا يوما ما سنصل لها، وما بعدها.

مقالات ذات صلة

‫13 تعليقات

  1. أستاذ محمد السلام عليكم.
    كالعادة مواضيع مشوقة..
    مو بس هذا… أنا حتى الموسيقى اللي تحطها في البودكاست تعجبني 🙂
    فياريت تخبرني عن أسماء الموسيقى و أكون لك شاكر. مع أني أتوقع إنك ما راح تعرف من وين تبدأ 🙂
    تحياتي لك و لجهدك الجميل

  2. نسيت أقولك إن الموسيقى اللي أتكلم عنها مو بس اللي في البودكاست الأخير و لكن …… 🙂
    أظنك فاهمني

    1. شكرا على الرد أستاذي …
      أنا أعرف أن الكثير منها موجود على اليوتيوب و لكن المشلكة في معرفة أسماءها ….
      على كل حال شكراً لك جزيلاً و خصوصا إنك رديت على الرغم من عدم أهمية الموضوع
      أستاذ محمد استمر بابداعك

  3. موسيقى البيانو في البودكاست هي موسيقى اغنية Seal وهي kiss from the rose.
    وتحية كبيرة جدا جدا لمحمد قاسم على هذه الحلقة الرائعة

  4. السلام عليكم دكتور. اولا شكرا على هذا المقال الجميل و انا من عشاق هذا السايوير. اولا يا دكتور هذه اول مره اخالفك الراي تماما مع كامل احترامي لرايك. اولا يا دكتور نلسا تنفق الاف ماياريات الدولارات فقط من اجل الاستكشاف و الهوايه و حب المعرفه. يا دكتور ناسا اصلا لم تكن تعلم او تقصد صرف هذه المليارات من اجل خدمة البشربة و لكن مع الوقت تلين ان اختراعاتها مفيده في المجال الطبي و غيره و كما نعلم الطب الحديث لا يمكنه الاستغناء عن الفيزياء ولا باي شكل. هدف ناسا ان تكشف كواكب صالحه للعيش و تصبح في المستقبل تتاجر بالرحلات لاكبر رجال الاعمال. يا دكتور المليارات التي تصرف على ناسا من اين اتت؟ هل من الشعب الامريكي! لا و الله بل من سلب و نهب ثروات الشعوب الفقيره في القارات الافريقيه ناسا هدفها معرفه الكون و هوايتها الاستمشاف نعم جميل جدا و روعه ان نعلم ان هناك نجم اكبر من الشمس بمليارات المرات و لكن ماذا بعدها. الادوات الطبيه التي تستخدم من اختراعات ناسا لا يمكن عليها الا الاغنياء. نحن نتكلم ماذا لو صرف 1% من الاموال التي تذهب الي ناسا على الشعوب الفقيره هل ينرى مجاعه و فقر و بطاله في العالم ؟؟؟؟ يا دكتور اليوم انا متاكد ان تقنيه النانو يمكنها شفاء اي مىض سرطان في الكون ولكن الشركات تحتكر و تبيع الكيماويات يساعدون الانسان بما يريدون و لا يساعدونه بما يريدون انا درست كثيرا عن الايدز و اعلم كم هو معقد و كم يغير من نفسه با دي ان اي و لكن صدقني انا اؤمن بان العلماء وجدوا الحل و لكن يبقى سرا حتى كبارهم يعلنوه. ناسا هدفها الاستكشاف مثل هدفي حب ان اصنع برنامجا تتكلم عنه الناس سنين. يا دكتور لو فرضنا ان ناسا وجدت كوكبا مطابق لكوكب الارض و تصلح عليه الحياه بكل الشروط و بعد سنه تاكدت ناسا ان هناك نيازك اكبر من الارض بملياريت المرات سوف تفتتها و ناسا تملك كل الامكانيات لنقل جميع سكان الارض الى ذالك الكوكب بشهر واحد فقط لنقل ان هذا سيثير بعد 200 عام فبالله عليك هل ناسا سوف تاخذ الفقير و الله لن تاخد الا الاغنياء و سيؤسسون حضاره على ذالك الكوكب و نحن سنباد هنا و هم ينظرون الينا. ناسا لم تساعد احد انا اشكرها فقط من اجل المعرفه. ليس من المعقول ان تكتب برنامجا ذكيا و تتعب عليه و تحمله على المتجر مجانا حبا بالله هناك ارباح تاتي من وراءه و كذالك ناسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى