كل وعاء يضيق حينما يمتلئ، إلا وعاء المخ، فهو يتسع كلما امتلأ.
قصة قطة، ذكرتها سابقا، وسأذكرها مرة أخرى، قصة مهمة جدا، تبين كيف يتعلم المخ، وهي من أهم القصص التي أثرت بي شخصيا، وفي العادة أذكرها لطلابي لأنها مهمة، حتى يعلموا كيف يتعلم المخ، لعل ذلك يساعدهم في تعلم بشكل أفضل.
علماء وضعوا قطتين حديثتي الولادة تحت الاختبار، وُضعتا في سلتين معلقتين بحبل من عمود أفقي، كالشخص الذي يحمل على كتفه عصاه، وعلى طرفي العصاة دلوين معلقين (أنا حاليا أبسط الفكرة حتى تصل إلى الذهن، التجربة ليست بالضبط هكذا)، ثقبت السلة الأولى لكي تخرج القطة الأولى أرجلها منها، وتلامس الأرض وتتمشى عليه، أما السلة الثانية فلم تثقب، القطة الثانية بداخلها، لا تستطيع الحراك، رأسها خارج السلة تستطيع أن ترى ما تراه القطة الأولى بالضبط.
القطة الأولى تمشي على الأرض، وتدور حول محور العصاة في الوسط، وتدور معها القطة الثانية حول المحور، الأولى تحرك الثانية، الأولى ترى وتتحرك بناء على ما تراه، الثانية فقط ترى العالم من غير أن تتفاعل معه، فكر في حامل الدلو، تخيله وهو يدور حول نفسه، ليدور حوله الدلوين، استبدل الرجل في الوسط بعامود رأسي، وعلى العمود الرأسي العمود الأفقي، وعلى أطراف العمود الأفقي حبل يحمل السلة الأولى على اليمين والسلة الثانية على اليسار، بتحريك السلة الأولى، تتحرك الثانية معها. وهكذا.
لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!
يضع العلماء القطتين بداخل السلتين لمدة ثلاث ساعات يوميا، ثم بعد ذلك يعيدون القطتين إلى أمهما لكي يتغذيان، الغرفة التي يتغذيان فيها مظلمة دامسة الظلام، حتى لا تستطيع أي من القطتين رؤية أي شيء والتفاعل معه. القطتان يتفاعلان مع العالم الخارجي في الثلاث ساعات بداخل السلتين فقط.
بعد عدة أسابيع، أخرجت القطتين من السلتين وإلى غرفة منيرة لكي تتحركان بحرية كاملة، ما حدث هو إن القطة الأولى كانت تتحرك بشكل طبيعي جدا، تتمشى، وتلعب كما تلعب القطط الطبيعية، أما القطة الثانية، فقد… لحظة، فكر بالقطة التي لم تمش على الأرض، ماذا تتوقع حدث لها؟ تستطيع أن توقف البودكاست الآن لكي تفكر في الإجابة…
لقد كانت القطة الثانية تصطدم بالحوائط، وتسقط من السلم، ولم تستطع الحركة بأسلوب طبيعي، ما السبب يا ترى؟ السبب يعود لكونها أصبحت عمياء. إن لم تستمع للحلقة التي ذكرت فيها هذه القصة لأول مرة، ستكون الإجابة صادمة لك، أليس كذلك؟ لقد فحصها العلماء، ووجدوا أن عينيها سليمتين تماما، ورجليها سليمتين تماما، كانت ترى بعينيها، وكان قادرة على المشي… إذن كيف أصبحت عمياء؟
لقد أصبحت عمياء بالبصيرة لا البصر. لا تستطيع أن ترى لأنها مخها لم يوصل الخلايا العصبية المتعلقة بالإبصار بالمتعلقة بالمشي، فحينما ترى ما حولها لا تستطيع التفاعل معه، وليس هناك تواصل بين الإشارات التي تصل إلى العين مع تلك الإشارات التي تحرك الأرجل، القطة الأولى تعلمت كيف تتحرك بناء على ما تراه، أما القطة الثانية فلم تتحرك بناء على الإشارات العصبية التي تصل من عينيها، فأصبحت عمياء. القطة الأولى مارست ربط الرؤية مع الحركة، الثانية لم تمارس إلا الرؤية.
نحن أيضا نعيش نفس هذه الحالة في أمور نجهلها، إذا لا نمارس لا نتعلم، ونصبح عميان في البصيرة، تخيل لو كنت تشاهد مباريات كرة القدم يوما بعد يوم ولسنوات طويلة، رأيت كيف يركض اللاعبين، وكيف يركلون الكرة، وكيف يناوشون اللاعبين الآخرين في تحريك الكرة بحركات سريعة ودقيقة، ثم طلب منك أن تنزل لملعب كرة القدم للعلب، هل تعتقد إنك ستتمكن من اللعب؟ بالطبع لا، فحتى تربط بين ما تراه وما تفعله لابد من ممارسة اللعب باستمرار حتى تتمكن من اللعب بشكل جيد، المشاهدة المجردة لا توصل الخلايا العصبية مع بعض بطريقة تمكنك من معرفة كيفية اللعب كما يلعب اللاعبين المحترفين.
وهذا ينطبق على كل ممارساتك، من دراسة، ومن تعلم حرفة، أو تعلم أداة موسيقية، أو كتابة، أو رسم أو ما أشبه، كلها تحتاج لممارسة حتى تتمكن من تكوين روابط بين الخلايا العصبية. عدا ذلك ستكون أعمى بالبصيرة.
في هذه الحلقة سأتكلم عن كيفية تطوير المخ، بحيث تتكون هذه الروابط بكفاءة أكبر، اعتمد في غالب ما سأقول على كتب الدكتور جون مدينا (John Medina) قواعد المخ (Brain Rules) وكذلك الكتاب الآخر له (Brain Rules for aging well)، الكتاب الآخر لكبار السن، بحيث يحافظوا على مخهم مع الكبر، ذكرت سابقا بعض هذه القواعد هنا وهناك في بودكاست أو في مقالة أو في بعض محاضراتي العامة، لم أسجل كل ما ذكره د. مدينا في الكتاب، انتقيت ما أعرف إنه مؤكد في الأبحاث العلمية بحسب علمي، وكذلك ذكرت أشياء أخرى ليست من ضمن كتابه، علمت عنها من خلال محاضرات لعلماء آخرين، وكذلك من بودكاستات أخرى.
بدلا من أطيل في المواضيع، وأشرحها بإسهاب، سأتكلم عنها باختصار شديد.
كيف تقوي مخك
الحافز والرغبة
بداية، وقبل كل شيء، لابد أن يكون لدى الشخص الحافز أو الرغبة أو الحماس لتعلم الشيء، لن تستطيع أن تتعلم الشيء من غير أن تكون لديك الرغبة في تعلمه، لماذا؟ ببساطة لأنك لن تستطيع التركيز، التركيز أمر مهم جدا لتمنية خلايا المخ، ومن غير التركيز لن يجهد المخ نفسه لتكوين الروابط، ولن تحفظ المعلومات في الذاكرة.
تريد أن تتعلم الفيزياء، وأنت غير راغب في ذلك وغير متحمس للموضوع، سترى نفسك تنجرف إلى مواضيع أخرى وأنت تحاول أن تتعلم قوانين نيوتن وتطبيقاتها. حاول أن تجد أشياء تثيرك في المادة، استثر المخ، المخ يحب الأشياء الجديدة والمثيرة، الأشياء العاطفية لها التأثير الكبير في التذكر والتعلم.
إذا كان لديك طفل وأردت منه أن يتعلم شيئا جديدا حمسه له، شجعه عليه، وامدح فعله لا هو إن نجح في محاولاته، لا تحبطه، الحماس يساعده على التعلم، الإحباط يوقف نموه.
التمرين المتكرر
إذا أردت أن تتعلم شيء تحتاج لأن تتمرن عليه باستمرار، إذا أردت أن تحفظ شيء تمرن عليه، وكرره على نفسك مرات عديدة، المخ يحتاج للتمرين مرة تلو الأخرى لكي ينمي الروابط، الروابط تبدأ بالتكون ثم تعود لتذبل مرة أخرى من غير التمرين المتكرر. وقد بينت من تجربة القطة أهمية التمرين لتعلم الشيء، ومن غير التمرين يصبح الإنسان أعمى للشيء.
ملاحظة مهمة جدا: المخ يتعلم في الغالب ما تتمرن عليه، ذلك يعني لو إنك تعلمت كيف تلعب لعبة على الإكس بوكس لقيادة السيارة، لا يعني ذلك إنك ستستطيع أن تقود سيارة حقيقية، نعم، التمرين على إكس بوكس يساعد في تنمية خلايا المخ، وبإمكانك أن تستخدمها للتمرين على قيادة السيارة الحقيقية، ولكن تأثير التمرين على موضوع معين لا ينتقل إلى موضوع آخر، تعلمك عزف آلة موسيقية لا يعني إنك ستكون قوي في الرياضيات مباشرة، صحيح إن تعلم الموسيقى يكون روابط مذهلة في المخ، ويؤهل المخ لتمارين في الرياضيات، ولكن الموسيقى وحدها لا تنقل الخبرة من الموسيقى إلى الرياضيات، لابد من استخدام الخلايا التي نمت للموسيقى للتمرن على الرياضيات، إذن، تمرن على الشيء بكثرة لكي تتعلمه هو.
سنأتي لتأثير عزف الموسيقى لاحقا، لها تأثيرات رائعة، وتحسن المخ.
الرياضة
إذا كان هناك شيء نصح به العلماء، وأكدوا عليه مرارا وتكرارا، وأثبتت تأثيره التجارب العديدة المتكررة والمختلفة في أنواعها هي الرياضية، فالرياضية تحسن من المخ والتفكير والتذكر سواء في الصغر أو في الكبر.
الرياضة أنواع، منها المشي السريع، منها الإيروبيكس، ومنها الأثقال، وهكذا، كل منها يؤثر على المخ إيجابيا، لكن كلما كانت الرياضية أسرع كلما كانت أفضل، حتى المشي الذي يجعلك تتنفس بسرعة أفضل من المشي ببطء، تمشى بسرعة لمدة 30 دقيقة يوميا أو 40 دقيقة ثلاثة أيام في الأسبوع، تمشى بحيث لا تستطيع أن تغني وأنت مرتاح بسبب سرعة التنفس.
حتى الأثقال تساعد على تعلم الشيء، اكتشف العلماء إن تعلم الشيء قبل أو بعد رياضة رفع الأثقال يساعد على تعلم وتذكر ذلك الشيء.
الرياضة… الرياضة… الرياضة.
النوم الكافي
المخ لا يتوقف عن العمل حتى أثناء النوم، الدراسات تبين إن النوم عدد من الساعات المناسبة في اليوم يساعد المخ على تخزين الذاكرة، أو ترتيب المعلومات، فحينما تنام يقوم المخ بتحويل المعلومات من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة الطويلة الأمد، وكذلك تبين الدراسات إن النوم يقوي من قدرة المخ للتعلم أثناء النهار، حتى القيلولة تساعد على تحسين وظائف المخ، الدراسات تبين إن حتى 45 دقيقة من النوم تعزز أداء المخ لست ساعات بعدها.
تجربة أقيمت على فأر، قام العلماء بتعليم فأر على متاهة، لاحظوا أنه حينما ينام الفأر يقوم المخ بإعادة تصور المتاهة مرة أخرى، ويكرر على نفسه تصور الطريق الصحيح في المتاهة مرارا وتكرارا وبسرعة أكبر من تعلمه لها أثناء النهار، وهذا يبين كيف يعمل المخ أثناء النوم، تخيل إنك تدرس مادة معينة وتنام بعدها، ستجد إن المخ يقوم بدراستها أثناء النوم أيضا، اكتشف العلماء إننا نقوم بما يقوم به الفأر أثناء النوم، ولكن بكفاءة أكبر بكثير منه.
قلة النوم – في المقابل – تؤثر على الذاكرة ووظائف المخ سلبا، وتؤثر على التركيز، والذاكرة، والحالة النفسية، والمهارات الحسابية، والمنطق، الطالب الشاطر إذا نام أقل من 7 ساعات – حتى لو بـ 40 دقيقة – ينخفض أداؤه في الدراسة إلى مستوى الطالب الأسوء دراسيا، الكثير من الطلاب يقضون وقتهم في السهر للدراسة قبل الاختبارات بيوم، ظنا منهم إن المعلومات ستخزن في الذاكرة جيدا، وهذا خطأ، يحتاج الطالب أن ينام بما فيه الكفاية لكي يحفظ المخ المعلومات، بل يحتاج لأيام أو حتى أسابيع للدراسة قبل الاختبار حتى يتسنى للمخ معالجة المعلومات المقدمة له، وتسجيلها في المخ بشكل دائم.
في الغالب يطلب من الشخص النوم بقدر 7-8 ساعات، لكن حاجة الشخص للنوم تعتمد على متغيرات كثيرة، منها عمر الشخص، ومنها تكوين الشخص، فالأطفال يحتاجون إلى أكثر من 8 ساعات، والكبار بالسن في الغالب يحتاجون لأقل من 7 ساعات، ولكن يعتمد على الشخص نفسه، فهو يحتاج إلى نوم يتناسب معه. نم بالقدر الكافي الذي تحتاجه.
ناموا تصحوا عقليا، وما فاز إلا النوم.
عزف الموسيقى
ذكرت عزف الموسيقى بتفصيل كبير في حلقة الموسيقى في العلم، تستطيعون الرجوع إلى الحلقة لمعرفة التفاصيل، ولكن بشكل عام، سماع الموسيقى ليس له التأثير الكبير على تحسين قدرات الإنسان العقلية، وإن كان له فوائد علاجية في مثل مرض الباركينسون، الفوائد الكبرى يجنيها الإنسان من العزف، فالعزف يحسن المخ على عدة مستويات، منها في اللغة، ومنها في تحسين القراءة، ومنها في تحسين سماع الصوت، ومنها في تحسين الذكاء العاطفي، تعلم العزف يؤثر في الأطفال خصوصا، إذا بدأنا بتعليم الأطفال العزف، سيتحسن أداؤهم في الدراسة بدرجة أكبر من الأطفال الذين لا يتعلمون الموسيقى.
لو أخبرتك إن أكل نوع معين من الشوكولاتة يحسن من أداء مخك وذاكرتك اللفظية بقدر 3% عن العادة، فهل لديك الاستعداد أن تأكل الشوكولاتة؟ من منا يرفض أكلها إن لم تتسبب الشوكولاتة له بمشكلة صحية مثل السكر؟ كلنا يريد حتى قدر 3% البسيط من التأثير، ماذا لو قلت لك إن عزف الموسيقى يحسن من ذاكرة الطفل اللفظية بقدر 16%؟ هل لديك الاستعداد أن تعلم ابنك عزف الموسيقى؟
من الأشياء التي يحسنها عزف الموسيقى:
- يدمج بين القدرات اللغوية والرياضية
- يكبر من حجم الجسم النفثي الذي يوصل بين فصي المخ
- يساعد في حل المعاضل بطرق أكثر كفاءة وابداع
- يقوي الذاكرة وتخزين المعلومات واسترجاعها
- يقوي قدرة الشخص على سماع الصوت في وجود تشويش من غير مجهود كبير
- مخ العازف يعطيه إمكانية التخطيط وتكوين الاستراتيجيات بأفضل من غير العازفين
- تتحسن لدى العازف قدرة ملاحظة التفاصيل
- العازف يميز الأصوات بدقة أكبر حتى مع الكبر وفقدان السمع
وللعلم، هذه الخواص لا يمكن الحصول عليها من خلال أي فن آخر، الدراسات تبين إن الفنان الذي يرسم أو يشكل أو ينحت أو يقوم بأي فن آخر لا يحصل على هذه المميزات، فقط عازفي الموسيقى يحصلون عليها.
كن متواصلا اجتماعيا
كلما كبر الإنسان كلما ضعفت ذاكرته، وتوجه في خط مستقيم إلى الألزهايمر أو الخرف، وهذا أمر شبه مؤكد وإن تفاوت الأشخاص بقوة تأثير المرض عليهم، وإن لم يكن في المرحلة الحالية علاج هذه المشكلة، ولكن بالإمكان التقليل منها ، فواحدة من أهم الأشياء التي تقوي الذاكرة هي التواصل الاجتماعي، سواء أكان على المستوى المباشر أو حتى من خلال شبكات التواصل الاجتماعي (وإن كان التواصل المباشر وجها لوجه أفضل)، الدراسات تبين إن التواصل مع الآخرين يحسن من أداء المخ مباشرة بعد التواصل، وعلى العكس، عدم التواصل يؤدي إلى ضمور نشاط المخ. التواصل الاجتماعي يتسبب في تخفيف التوتر وبالتالي تحسين المناعة، وكذلك يجعل المخ يقوم بتمارين رياضية، التفاعل مع الآخرين يفرض على المخ البقاء في حالة نشطة.
من المهم جدا أن تكون هذه العلاقات التي تتواصل معها اجتماعيا إيجابية، السلبية تتسبب في تراجع وظائف المخ. النوع وليس الكم هو المهم. وكذلك كلما تفاعل كبير السن مع الصغار في العمر كلما كان ذلك أفضل لدماغه. فتفاعلوا إيجابيا مع الآخرين، واختاروا الصغار للتفاعل معهم.
الأكل الجيد
الأكل الجيد يعتبر أمرا هاما في تطوير الدماغ، ولكني سأتفاداه، لأني لا أثق في المعلومات التي عادة ما تطرح في هذا الجانب، الدراسات دائما متناقضة، وأنا ضعيف جدا في جمع المعلومات الدقيقة من ناحية التغذية المناسبة. لذا أترك المستمعين يبحثوا عنها بأنفسهم.
هناك أمور أخرى أيضا تستطيع قراءتها في كتاب الدكتور جون مدينا (John Medina) قواعد المخ (Brain Rules) و(Brain Rules for aging well).