كيف تكشف المغالطات – 2؟
تناولت في حلقة قديمة موضوع المغالطات، وربما كانت هذه والحلقات التي على شاكلتها من الحلقات التي لها تأثير نستشعره في حياتنا، وقد أخبرني العديد من المتابعين أنهم استفادوا منها مباشرة في معرفة الأخطاء التي يقعون فيها هم وأصدقاؤهم، وكذلك فقد تحسن نقاشهم بعد معرفة هذا النوع من المغالطات المنطقية غير الرسمية.
أعود لأذكركم ببعض المغالطات السابقة لأهميتها، وسأذكر مغالطات جديدة إما خلال ذكرها أو في النهاية.
الانحياز التأكيدي وانحياز الناجين
الانحياز التأكيد ليست مغالطة منطقية، إنما هي مغالطة يقع في الكثير من الناس في تحليلهم لفكرة معينة، وقد ذكرتها في السابق في حلقة المغالطات في التفكير النقدي نحن نقع في هذه المغالطة بالتحديد كثيرا، وأتمنى أن يتم التركيز عليها لأهميتها.
لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!
المغالطات والإنحياز التأكيدي
ما هو الانحياز التأكيدي؟ هو عبارة عن انتقاء الأدلة التي تتناسب مع حجتك أو فرضيتك وتهمل جميع الأدلة التي لا توافقها، فتقوم بانتخاب وتذكر المعلومات بانتقائية بحسب توقعاتك المسبقة، أو تحاول تبرير المعلومات بحيث تنحاز هذه التبريرات إلى معتقداتك فعلى سبيل المثال، أنا أعتقد أن علم الطاقة يشفي المريض، لدي هذا الاعتقاد المسبق، فأتذكر المواقف التي تبين أن شخص مختص في علم الطاقة يقوم ببعض الحركات بيده على شخص مصاب بالصداع مثلا، وبعد قليل يذكر المصاب أن الصداع قد اختفى كلية من رأسه، فأنتقي هذا المثال بالتحديد لدعم اعتقادي، وأنسى جميع المواقف الأخرى التي مرر المختص يده على رأس مريض ولم يحرز الشفاء، فأؤكد صحة اعتقادي من مجرد ذلك الشخص الذي “شفي”، أو مجرد من تلك الأمثلة التي تدعم فكرتي، وأترك جميع الحالات التي لم يشفى فيها المريض (سأخصص حلقة لعلم الطاقة لأبي أنه ليس علم، إنما هو زيف).
مغالطة انحياز الناجحين
من المغالطات القريبة من مغالطة الانحياز التأكيدي هي مغالطة انحياز الناجين، قبل أن أبدأ بطرح مبدأ هذه المغالطة سأذكر لكم قصة توضح هذه الفكرة بطريقة رائعة. ذكرت هذه القصة من خلال السناب شات (حسابي على السناب شات mqaesm)، وأعجب بها المتابعون، ومن المناسب إعادة ذكرها هنا للأشخاص الذين لم يستمعوا لها من قبل.
في نهاية سنة 1942 أسس الجيش الأمريكي وحدة خاصة للمساهمة في إنجاحهم في الحرب العالمية الثانية، لم تكن هذه الوحدة مكونة من أشخاص مدربين على حمل السلاح، ولم تكن أدواتهم الرشاشات أو الدبابات أو الطائرات، إنما كانت مكونة من مجموعة من الرياضيين، أسميت هذه الوحدة باسم “لجنة الرياضيات التطبيقية” (Applied Mathematics Panel)، وكان هدفهم التقليل من الخسائر الحربية باستخدام علم الإحصاء والاحتمالات.
فكان على سبيل المثال إحدى المشاكل التي عالجها أولئك الرياضيين هي كيفية إطلاق الغواصات التوربيدات على السفن بحيث يكون لها أكبر تأثير، رغم أن الجيش استعان في الكمبيوترات البدائية في تلك الأيام إلا أن الحل لم يأتهم منها، إنما من العلماء في اللجنة، حيث استخدموا حسابات أسس لها العالم اللورد كالفين سنة 1887.
ولكن القصة الأهم تكمن في مشكلة كانت تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية في الطائرات قاذفات القنابل التي كانت ترجع لهم مثقوبة بسبب إطلاق الرصاص عليها، أراد الجيش أن يعرف ما هي أفضل وسيلة لتدريع الطائرات بحيث تحميها من الإصابات، حتى ترجع بسلام، المشكلة تكمن إصابتها عشوائيا بالرصاص، حيث وجدوا أن بعضها ثقب في الخلف، والبعض الآخر ثقب في الجناح، وبعضها في الوسط وهكذا.
بالطبع فإن الجيش لا يستطيع أن يدرع الطائرة بالكامل، لأنها ستصبح ثقيلة جدا، ولن تتمكن من الطيران، لذلك كان على الرياضيين استخدام علم الاحتمالات لمعرفة أفضل الأماكن التي من المفروض أن تتم حمياتها. حتى تضمن – إحصائيا – نجاة أكبر عدد من الطائرات.
قام الجيش الأمريكي بعدّ الطلقات التي وجدوها على الطائرة من جميع الجوانب، فوجدوا أن أكثرها كان يتركز على الأجنحة ووسط الطائرة وأيضا في الذيل، بديهيا، لأي شخص ينظر إلى الثقوب سيتوجه مباشرة إلى أكثر الأماكن المتأثرة في الطائرة، وسيقوم بتدريع تلك الأماكن، قد تتفق مع هذه الفكرة، وإن اتفقت.. فأنت اتفقت فأنت مخطئ.
كان من بين الرياضيين في اللجنة الرياضي العبقري أبراهام وُلْدْ (Abraham Wald)، أصله من رومانيا (الإمبراطورية الهنغارية المجرية في تلك الأيام)، ولد لأسرة يهودية، عانى من الاضطهاد، وتضاعف الاضطهاد لما غزى هتلر دولته، فهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وشارك مباشرة في لجنة الرياضيات التطبيقية التابعة للجيش الأمريكي، قُبل فيها لذكائه وعبقريته.
حينما عرضت عليه مشكلة الطائرات تنبنه لشيء مهم، وهو أن تدعيم الطائرات المثقبة في الأماكن المقترحة لن يحل المشكلة أبدا، لأن الطائرات التي عادت من ساحة المعركة هي التي نجت رغم وجود الثقوب فيها، أما الطائرات الأخرى التي لم تنجو هي التي تحتوي على ثقوب في أماكن أخرى، مما تسبب في سقوطها، ولم تعد إلى القواعد، فاقترح على الجيش أن يدعم الأماكن التي ليس فيها ثقوبا لحمايتها، فالطائرات التي لم تعد لو أنها أصيبت في نفس الأماكن التي أصيبت بها الطائرات التي عادت لعادت هي أيضا.
قام وُلد استنتاج معادلات رياضية معقدة من خلالها يمكن معرفة الثقوب التي من المحتمل أن تصاب بها الطائرات التي لم تنجو في الحرب، ومنها تمكن من معرفة أضعف الأماكن، هذه الرياضيات التي أنشأها هي مستخدمة إلى يومنا هذا في الجيش الأمريكي. وتعتبر فكرته هذه هي واحدة من أهم الأفكار في حل مشكلة ارجاع القاذفات سالمة، بل إن منهج التفكير بقي معنا إلى يومنا هذا كدرس مهم في الاقتصاد.
ما حصل للرياضيين الآخرين هو أنهم انحازوا إلى الناجحين، فقد توجهت أنظارهم إلى الطائرات التي نجت، وأهملوا الطائرات التي فشلت، وبذلك وصلوا إلى استنتاجات خاطئة. وهو أمر يحصل لك أنت شخصيا بصورة متكررة في حياتك، لذلك دعنا ننظر إلى بعض الأمثلة الشهيرة التي خدعت منها.
كثيرا ما يتردد أن بيل غيتس لم يكمل الدراسة الجامعية، وها هو أصبح أحد أكبر المليارديرية في العالم، وهذا ينطبق أيضا على ستيف جوبز الراحل لم يكمل المرحلة الجامعية للحصول على شهادة البكالوريوس، وأيضا ينطبق على توماس أديسون صاحب أكثر من 1000 براءة اختراع، وقد دُرس في المنزل، ولم يذهب للمدرسة، كل أولئك وعدد لا بأس به من الناس لم يحصلوا على الشهادة الجامعية، ولكنهم غيروا العالم. من يرى بيل غيتس، وستيف جوبز، وتوماس أديسون ويجعلهم قدوة له، قد يهمش أهمية الدراسة الجامعية، ولا يعتبرها سبيلا للنجاح. بذلك يكون قد وقع في فخ انحياز الناجحين، لقد أهمل كل الذي فشلوا في حياتهم بعد أن تركوا الدراسة، كل أولئك الأشخاص لم يسمع عنهم، ولم يعرف قصصهم، ببساطة لأنهم فشلوا دراسيا واندثروا، وبذلك يستنتج نتائج خاطئة.
شيء أخر كنت أسمعه حينما كنت صغيرا من الكبار في السن، كان يقولون أن الشخص في السابق كان صحيح البدن خالي من الأمراض، طويل العمر، حياتهم كانت طبيعية أكثر، طعامهم كان صحيا، أما اليوم فالأمراض منتشرة والموت سريع، والحياة معقدة، ما يتذكره أولئك الأشخاص هم الناس الذين نجوا، وعلى ذلك يقيسون تجاربهم، ونسوا انتشار الأوبئة الواحد تلو الآخر حينما لم يتوفر العلاج، ونسوا أن الأمهات كانت تلد أعداد كبيرة من الأطفال حتى إذا ما مات منهم مجموعة يبقى آخرون، نسى عدم تصفية وتنقية الأطعمة كما هو اليوم في المصانع ليصل إلى الشخص من غير أن يكون فيها أوبئة، كل التحسينات المعاصرة ساهم في دفع البشرية للصعود في معدلات الحياة بشكل شبه أسي في حياتنا المعاصرة، كل ذلك فات كبار السن، لأنهم حللوا آراؤهم بناء على من نجى منهم (سواء أكان ذلك هو أو أحد أصدقاءه).
حتى لا ننحاز للناجحين يجب أن يشتمل التحليل على الفاشلين أيضا الذين لم ينجوا، وهذا هو النطاق الذي يتعامل انحياز الناجحين، أما الانحياز التأكيدي فإن أردنا أن نتفاداه فنأخذ ليس فقط بالناجين والفاشلين الذين لم يدرسوا (على سبيل المثال)، بل حتى بالناجين والفاشلين من الذين درسوا، أي أن مظلة الانحياز التأكيدي أشمل من انحياز الناجين.
المغالطات التي فصلناها: مغالطة رجل القش
وهو أن يقوم الشخص المجادل بطرح فكرة الطرف الآخر بطريقة محرفة، بحيث يمكنه أن يهاجم الفكرة التي طرحها هو خصوصا أنها ضعيفة الحجة، فيوهم المستمعين أن رده كان على فكرة الطرف الآخر الأصلية غير المحرفة، فمثلا من الممكن تكون المحادثة بهذه الطريقة
طبقة: “أعتقد أننا من المفروض نخفض من الصرف على الأكل في رمضان.”
شن: “ما لك أتريدن أن نموت من الجوع، ألا يكفي أننا جياع في رمضان، أعتقد أنك مخطئة في تخفيض الصرف”
شن طرح فكرة متطرفة جدا، وهي الجوع حتى الموت، فحرف فكرة طبقة الأصلية، وهي فكرة هي تخفيض الصرف الزائد على الأكل وليس قطعه نهائيا، شن أبعد النظر عن الفكرة الأصلية وهي الصرف الزائد على الطعام في رمضان، إلى رجل القش الذي هو قطع الصرف نهائيا، وأنه هذا التصرف سيميتهم من الجوع، وبهذا ضرب في القطع الصرف النهائي ليبدو وكأنه احتج على الفكرة الأولى وهي تقليل الصرف.
مغالطة ضد الرجل
هي أن تحول النقاش من الفكرة إلى الشخص، بحيث تضرب بشخصه، ثم تنفي صحة فكرته لمجرد خلل في شخصيته.
طبقة: “سارة تحدثت قبل يومين عن كيف ينجح الشخص في الدراسة، وقد ذكرت نقاطا مهمة جدا.”
شن: “من تقصدين؟ هل تصدقين سارة البخيلة؟ أراؤها لا تجدي نفعا”
بدل من أن يناقش شن الأفكار المختصة في كيفية النجاح، قام بضرب سارة، ووصمها بالبخل، فضرب الفكرة من خلال شخصيتها.
التوسل بالمرجعية
وهو أن تستخدم الشخص المرجعي كطريقة لإثبات صحة كلامك، وطبعا هذا في حالة إن لم يكن المرجع مختصا في المجال الذي تحاول إثباته، فلن يكون هو الشخص الصحيح للرجوع له.
شن: “هل تعلمين يا طبقة أن أكل ورد التوليب تطيل العمر؟”
طبقة: “ما هذا الكلام؟ يبدو لي هراء.”
شن: “لقد قال هذا الكلام خطيب الجمعة، وهو محترم جدا بين الناس، وله مقامه الرفيع.”
لا شك أنه ما لم يكن خطيب الجمعة مختصا في الصحة أو اعتمد في نصيحته على مختصين في ورود التوليب والطب على سبيل المثال، ربما لن يكون رأيه دقيقا، لن تستطيع أن تعتمد عليه.
الآن نأتي لـ المغالطات الجديدة.
التوسل بالإيمان
كثيرا ما أجد نفسي في نقاش مع بعض الأصدقاء الأعزاء، والنقاش يكون في أوجه حينما نستخدم المنطق للاستدلال على حججنا، فكل طرف له حجة يستند عليها لإثبات صحة كلامه، أحيانا قليلة حينما يحتد النقاش أجد بعض الأصدقاء يلجؤون إلى إلزامي بالتوسل إلى الإيمان، فجأة تتغير قواعد النقاش من حجج منطقية إلى الدفع للقبول بلا حجة والاعتماد على الإيمان.
المشكلة الأولى في هذه النقاشات أن الشخص الذي يناقش بعد أن قضى وقته في النقاش منطقيا، والتزم بقواعدها، بمجرد احساسه بوجود ثغرة في النقاش يتسارع إلى تبديل قوانين النقاش المتفق عليها ضمنيا، فيبدل قواعد النقاش من منطقية إلى قواعد إيمانية، أحيانا تتمثل هذه القواعد الإيمانية هي جمعية وأحيانا دينية، إن كان التوسل بالإيمان هو جمعي فلا مشكلة في ذلك، فيمكن دحض هذا الإيمان (سأشرح بعد قليل ما أعنيه بـ”جمعي”)، ولكن إن كان الإيمان ديني فنحن نعلم أن النقاش يتوجه إلى اتجاهات قد تكون خطيرة.
إذا كان التوسل بالإيمان هو الطريقة الصحيحة لإثبات الحجة، فلم نكن نحتاج أن نناقش الموضوع منطقيا من الأساس، وكل ما نحتاجه هو يطرح الموضوع من باب إيماني، وعندها يتوقف النقاش، فأنا شخصينا إن كنت في نقاش من هذا النوع، أستطيع أن استخدم ورقة الإيمان من صالحي وفي أي وقت.
أنت تؤمن بشيء، وأنا أؤمن بشيء آخر، وعندها كل شخص صحيح لأننا اعتمدنا على الإيمان.
مررت طبقة يدها على رأس شن حتى تزيل من رأسه الصداع.
طبقة: “هل تشعر بتحسن يا شن؟ هل ذهب الصداع من رأسك؟”
شن: “لا أعتقد أن الصداع سيذهب بسبب علم الطاقة. الدراسات تبين أن تأثير مثل هذه الأشياء هو مجرد تأثير بلاسيبو”
طبقة: “هذا الكلام ليس صحيحا، يبدو أن إيمانك ضعيف، لو أنك تؤمن أن بإمكان علم الطاقة علاج صداعك، ستجذب لنفسك العلاج، وستذهب ألامك.”
طبقة تركت المنطق والعلم ولجأت للإيمان كدلالة على صحة الشيء.
ما قصدته في التوسل الإيماني الجمعي، وهو أن يعتمد المجادل على إيمانيات الناس لتحديد موقفه من موضوع معين، أو يستخدمها لكي يقنعك أن الذي يقوله هو صحيح. وهذا ما يلجأ إليه بعض أصدقائي في النقاش حينما يتوسلون في الإيمان، هم يقولون بشكل غير مباشر أنهم هم وعدد كبير من الناس يؤمنون بصحة الذي يدعيه هو، إذن، يجب علي أنا أيضا أن أصدقه وأقتنع بكلامه.
شن: “طبقة، هل تعلمين أن أكل الجبن يضعف من المفاصل؟”
طبقة: “لم أقرأ بحثا عن هذا الشيء، هل هذا مثبت؟”
شن: “نعم، لقد قاموا بإحصائية، ووجدوا أن ٧٦٪ من الناس يعتقدون أن الجبن يضعف المفاصل.”
لاحظ أن شن لم يستخدم دراسة علمية مثبتة، بل استخدم إحصائية وهذه الإحصائية لا تعتمد على ما إذا كان 76% من الناس يصابون بضعف بالمفاصل، لا، بل إنهم يعتقدون أنهم يصابون بضعف بالمفصال، بل على ما يعتقد أن يؤمن به الناس. ولذلك يجب على طبقة الإيمان به.
بالطبع فإن هناك حالات خاصة لهذه القاعدة، فمثلا، لو قلنا أن أغلب العلماء يعتقدون أن الأرض عمرها ٤.٥ مليار سنة، بإمكاننا أن نعتبر هذه حجة، ليس لأنها صحيح بسبب اعتقاد العلماء، بل هي صحيح لأننا لو أردنا أن نحصل على الدليل منهم لقدموه لنا، فبغض النظر عن اعتقاد العلماء بصحة هذا الشيء، في هذه الحالة الدليل متوفر.
الحالة الثانية، هي أن يتفق الناس على شيء معين كتعريف، عند إذن بإمكاننا أن نقبل بذلك.
شن: “هل تعلمين أن القيام مباشرة من الطعام قبل قيام الضيف هو عيب. أغلب الناس تظن هذا الشيء في السويد.”
طبقة: “بالتأكيد، هو عيب لأنهم اتفقوا على أن هذا العمل هو عيب، وهو من عاداتهم وتقاليدهم، فلو كنّا في بريطانيا، لكان القيام من الطعام قبل قيام الضيف هو أمر طبيعي.”
ملاحظة لطيفة قرأتها في أحد المواقع، وهي أن أغلب الذي غيروا مجرى التاريخ كانوا من أؤلئك الناس الذين خرجوا خارج نطاق إيمانيات مجتمعاتهم، فعلى سبيل المثال، جاليليو، حينما كان العالم كله تقريب يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض، نظرته للكون بطريقته خارج السرب غيرت نظرة العالم إلى مركزنا في الكون، وكذلك دارون، اعتمد على أسس مختلفة لفهم الكائنات الحية، غرد خارج السرب، وإذا به يغير مجرى مفاهيم الناس لطبيعة ومركز البشر في العالم. وكذلك آينشتاين، الذي ربط بين الزمن والمكان ليصبح لدينا زمكان، خروجه عن المألوف المقبول جمعيا أحدث ثورة علمية عالمية، وهكذا بالنسبة للكثير من العلماء والمفكرين الآخرين.
إرجاع مرمى الهدف إلى الخلف
إرجاع مرمى الهدف إلى الخلف هي مغالطة أواجهها كثيرا عندما أناقش في موضوع تغلب الكمبيوتر على البشر، كلما أذكر أنه قد يأتي اليوم الذي يتغلب الكمبيوتر على البشر من ناحية الذكاء أو بشكل عام، أجد في الغالب أن الطرف الآخر يستخدم هذه المغالطة، فكلما أرد على تحدياته الجدلية برد منطقي مستند إلى العلم، بدلا من أن يقبل بصحة النقطة، ويتقبل أنني أصبت الهدف يقوم بإرجاع الهدف إلى الخلف حتى يقول أنني لم أصبه.
طبقة: “لن يأتي اليوم الذي يتغلب فيه الكمبيوتر على الإنسان، مهما قمنا بتطويره.”
شن: “ماذا تقصدين يا طبقة، فالكمبيوتر حاليا متغلب على الإنسان في عدة نواحي. فمثلا يستطيع أن يحسب أسرع من الإنسان، وهذا يعتبر تغلب.”
طبقة: “قد يغلبه في الحساب، ولكن الكمبيوتر لا يستطيع أن يتغلب على الإنسان ذكائيا.”
شن: “كيف وقد حدث ذلك في مسابقات الشطرنج ولعبة غو، وألعاب أخرى متعددة، الكمبيوتر أثبت جدارته في التغلب على البشر.”
طبقة: “قد يغلبه في الشطرنج ولكن هل يستطيع أن يبدع، الإنسان هو الوحيد المبدع، لا يمكن التغلب عليه في الإبداع”
شن: “هناك كمبيوترات تبدع، فهناك ما يؤلف الموسيقى، وهناك ما يرسم رسمات بنفسه من ابداعاته الشخصية، حتى في اللعب هناك كمبيوترات تقوم بحركات لم يفكر بها الإنسان من قبل، فهذا بحد ذاته إبداع.”
طبقة: “ولكن هذا الكمبيوتر بالتأكيد لا يفكر بنفسه، لابد أنه بُرمج وبذلك لا يمكن للمصنوع أن يكون أذكى من الصانع.”
شن: “صحيح أن الكمبيوتر برمجه الإنسان، ولكنه لا يخضع لما قرر له الإنسان، ولذلك ذكرت لك إبداعاته السابقة التي لم تخضع لبرمجة الإنسان المباشرة، واليوم الكمبيوتر يتعلم بنفسه كما يتعلم الأنسان.”
طبقة: “ولكن هذا لا يعني أن الكمبيوتر سيصبح واعيا مثل الإنسان، الإنسان لديه روح، والكمبيوتر ليست لديه روح.”
وهكذا يستمر النقاش، ولو أكملنا ورد شن على طبقة على إشكالية الوعي والروح لقالت طبقة أن الكمبيوتر لا يحاسب ولا يدخل الجنة والنار، وهكذا، فهي كانت كلها يدخل شن هدفا عليها تسحب مرمى الهدف إلى الخلف لتشعره أنه مخطئ، خلال في العادة حينما تطرح جميع الأدلة لا يعترف الطرف الآخر بصحة الردود، ولكنه يطلب الانتقال إلى النقطة الأخرى لمناقشتها، إرجاع الهدف يتم أثناء المناقشة ليتغير موضوع النقاش باستمرار.
في مثل هذه المغالطات لابد من تنبيه الطرق الآخر على إرجاع الهدف إلى مكانه، وعلى الطرف المناقش أن يرجع للنقطة الأولى قبل للانتقال للثانية، حتى يتم إما قبولها أو رفضها، وأن لا يفتح موضوع جديد قبل ذلك.
خلاصة حلقة المغالطات
بطرحي لـ المغالطات ربما تتصور أن أقدم لك سلاحا لكي تكشف أخطاء الآخرين، في الحقيقة، هو سلاح ذو حدين، أحدهما موجه عليك، حتى حينما تتكلم مع الآخرين تعرف أنك تستخدم الأدوات الصحيحة في النقاش، ولعل من المهم أيضا أن تعرف أنك ستخطئ وتكرر وقوعك في المغالطات، ولكن لا ضرر في الوقوع في الخطأ، ولا ضرر بالاعتراف بخطئك، وتصحيح نفسك، وفي نفس الوقت الذي تحاول الكشف عن أخطائك الشخصية بإمكانك إنارة الطريق للغير من كشف أخطاءهم.
من المهم جدا أن تستخدم هذه المغالطات مع الجميع وبلا استثناء، مثلا أنت وصديقك تتناقشان، وكانت لديك أدلة علمية وحجج قوية، ثم دخل دكتور على الخط، وساند صديقك ولكنه استخدم المنطق المغالط، كونه يحمل شهادة، وحرف الدال أمام اسمه لا يعطيه الصلاحية في تمرير الأخطاء، وأود أن أوكد أيضا أن هذا ينطبق أيضا على رجال الدين، كونهم رجال دين لا يعني بأي شكل من الأشكال أنهم لا يقعون في الأخطاء، فهم حالهم كحال غيرهم، يجب عليك أن تتصدى للمنطق المغالط قدر الإمكان.
وفي نفس الوقت لا يعني ذلك أنك تفقد آداب الحوار والنقاش وتهين الطرف الآخر، بل يجب عليك مراعاتهم قدر الإمكان. فهم المغالطات هو سلاح قوي جدا، ويفتك بمن هو أمامك، كونك تعرف هذه المغالطات وتستخدمها مع الأخرين يعطيك تفوق عليهم، ولذلك لا تجرحهم أكثر بعد كسرك لحجهم بسوء الأخلاق.
ملاحظة
تأتيني بين الحين والآخر رسائل من بعض المتابعين الذين لديهم أفكار “ثورية” كما يسمونها، منها ما سيغير قوانين الفيزياء رأسا على عقب، بحيث يكون هناك رد على نظريات آينشتاين أو نظريات ميكانيكا الكم، ومنهم من سيفسر الطبيعة بطريقة لم يتم تفسيرها في السابق، إما جيولوجيا أو بيولوجيا، وربما أكثر ما تصلني هي ردود على نظرية التطور، البعض منهم ألف كتبا يشرح فيها بعض أفكاره، وغالبا ما تأتيني مثل هذه الرسائل بثقة تامة. أظن أن لدى الكثير لبس العلم والمنهج العلمي. لأوضح لأن بالنسبة لي هذه مسألة مقلقة للغاية.
1. من يعتقد أن العلم هو مجرد أفكار أتى بها شخص وهو جالس على كرسي ثم صاغها بأسلوب جيد في الكتب فلاقت استحسان الناس فهو مخطئ، العلم لا يعمل بهذه الطريقة أبدا، قبل قليل ذكرت قصة وُلد الذي انبته لانحياز الناجين، ولكن هذه كانت مجرد قصاصة من القصة الأصلية، لم يكن والد ليكتفي بأن يكتشف انحياز الناجين ثم يذهب للمنزل منتشيا بانتصاره على جميع الرياضيين الذين كانوا يعملون معه، بل استنتج قوانين رياضية لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا، وهي بالغة الصعوبة وليست سهلة.
وهذا ينطبق مباشرة على نظرية آينشتاين، ربما تستمع للنظريات من خلال السايوير بودكاست أو تقرأ كتابا عن الموضوع، فتقرأ مثلا انحناء الزمكان، أو شخص في مركبة ينطلق لمدة ساعة ثم يعود إلى الأرض، إذا بها قد مر على أهلها 1000 عام مثلا، وتعتقد: “جميل! أنا أستطيع أن افكر هكذا” وتجلس وتتخيل أفكار معينة، وتنسج خيالا جميلا وتعتقد أن نظريات آينشتاين أتت بهذه الطريقة، وهذا خطأ فادح، لأن آينشتاين لديه معادلات معقدة ليس من السهل فهمها، حتى ما تراه من قوانين مثل E = mc^2، أو قوانين الزمن، هذه في الحقيقة خلاصة القوانين، وهي بصورتها المبسطة جدا، الفيزيائيون أنفسهم يعانون من عمق وتعقيد القوانين الرياضية التي استنتجها آينشتاين.
من يريد أن يرد على نظريات آينشتاين عليه أن لا يتوقف عن الكلام، بلا لابد أن يستخرج قوانين تفسر الطبيعة بحيث تفسر كل ما فسرته نظريات آينشتاين، وتفسر أيضا ما لم تفسره نظرياته، وبعد ذلك لابد أن تقام التجارب لإثبات نظرياته، وأن لا يكتب مقالة قصيرة أو كتاب ويعتقد أنه وجد حلا جديدا.
وهذا الكلام ينطبق تماما عن نظرية التطور، فالبعض يحاول الرد على نظرية التطور من خلال الكلمات وبعض المنطق ظنا منه أن العلماء لم يمروا بهذه الأسئلة، ولم يعالجوها من قبل، وأن المسألة هي مجرد كلمات في مقابل كلمات، المشكلة تعود لتبسيط نظرية التطور لعامة الناس، فيعتقد البعض أن نظرية التطور تختزل في كلمات، فيصبح الرد عليها بالمثل كافيا. نظرية التطور ليست كلمات كما أن نظريات آينشتاين ليست كلمات فقط، نظرية التطور تحتوي على أحافير، وتحتوي على قواعد بيولوجية بحتة على رأسها الدي إن إي، وتحتوي على حسابات رياضية احتمالية معقدة جدا، وفيها خوارزميات، وهناك أيضا التأريخ الراديومتري، واليوم نشأ علم جديد يحاول أن يفهم الأمراض البشرية تطوريا، وأمور أخرى كثيرة، من يريد أن يرد على النظرية عليه أن يتعلم نظرية التطور على أصولها في الجامعات ويعرف الأحافير ويفهم البيولوجيا ويفهم الدي إن إي، ورياضياتها، ويأتي بتجربة علمية تبين أن التطور لا يحدث في مقابل كل التجارب العلمية التي تبين أن التطور يحدث، بعد ذلك يستطيع أن يتكلم بثقة.
2. لا أريد أن أكون محبطا في النقطة الثانية، ولا أود أن يتوقف أحد عن التفكير، وذلك خصوصا للشباب الناشئ، والذي يحاول أن يأتي بأفكار جديدة، ولكن المنهج العلمي لا يعمل بأن يأتي شخص بفكرة في وهو مختل بنفسه، ثم يعتقد أن لا أحد فكر مثله، وهذه هي مشكلة يقع فيها أكثر الباحثين في الدكتوراة، أو مشكلة يقع فيها أكثر من يحاول أن يخترع شيئا جديدا، فالباحث حينما يبحث خلال الأوراق يكتشف أن معظم ما فكر فيه سبقه إليه آخرون، وربما إن لم يبحث جيدا، سيجد ويجتهد في الموضوع الذي فكر فيه، ثم يكتب ورقة علمية كثمرة للجهد الذي بذله في 3 سنوات، ثم بعد أن تحكم من قبل علماء آخرين يكتشف أن فكرته أسس لها قبل عشر سنوات مثلا، فيذهب عمله هباء منثورا.
لذلك تجد أن لكل طالب دكتوراة هناك مرشد يطرح عليه فكرة جديدة ليبحث فيها، أو يرشده عموما إن أتى الطالب بفكرة جديدة، ومع ذلك كله، لابد على الطالب من البحث الطويل في الأوراق لمعرفة ما إذا كانت الفكرة قد طرحت من قبل ونشرت في أوراق أخرى.
كثير ما نسمع أن المنهج العلمي هو: ملاحظة – فرضية – تجربة – نظرية – نشر – تحكيم – وهكذا. لكن هذا المنهج قاصر عن طرح البحث في الآلاف من الأوراق العلمية فقط في مجالك الضيق حتى الضجر، والبحث لمعرفة إن لم يفكر فيها أحد من قبل. وستجد أن فكرتك في الغالب فكر فيها غيرك، وإما أنه وضع القواعد العلمية لها أو اكتشف أنها خاطئة.
إذن، لا يمكن أن تنطلق بفكرة في رأسك ظنا منك أنك أنت الوحيد الذي فكر فيها، وأنها بالتأكيد صحيحة، وأن لديك حججا معلومات جديدة تنقض علم سابق، لابد أن تفهم كيف تفكر، وكيف تتعامل مع فكرتك، وكيف تتابعها بعد أن تفكر فيها.
كما ذكرت، لا أود أن أحبط الشباب والشابات الطموحين والطموحات، بل أود أن أبين لهم أن المسألة ليست سهلة، ولكن مع ذلك أنا متأكد إن اتباع الطريق السليم للبحث العلمي يوصل الكثير منهم إلى علوم سليمة وصحيحة ومخففة من الأخطاء. أما إن أراد البعض الاختصار في تفكيره، فأود أن أخبره أن يستريح!
1. Survivorship Bias, David McRaney
2. How the Survivor Bias Distorts Reality, Michael Shermer
3. Abraham Wald، Wikipedia
4. Episode Music. Gramophone Eugen Doga
حلقة مميزة جدا *
كنت اوقف التسجيل للحظات وتأمل في الافكار ،
أستفدت كثير … شكرا لك دكتور محمد .
يعطيك العافية دكتور محمد،،
ممكن تنصحني باسم كتب اجنبيه لأني اريد ان اتعمق في هذا الموضوع لو تفضلت
وشكرا لك..
احسنتم دكتور