بيولوجياتطورعلمكيمياء

SW096 ما هي الحياة؟

ما هي الحياة؟

في سنة 1943 قام العالم الفيزيائي الكبير إيروين شرودنجر بسلسلة من المحاضرات عن الحياة، كانت المحاضرات بعنوان: ما هي الحياة؟ حضر لهذه المحاضرة ما يقارب 400 شخص، وفي سنة 1944 ألف كتابا صغيرا بنفس العنوان اعتمادا على تلك المحاضرات، لم تكن لمحاضراته في حينها شعبية أو انتشارا واسعا، ولكنها وتعتبر واحدة من أكثر المحاضرات تأثيرا على العلماء للتفكير في الحياة من باب الكيمياء والفيزياء معا، وقد ذكر واتسون وكريك العالمان الحائزان على جائزة النوبل لاكتشافهما شكل الدي إن إي الإهليجي أنهما مدينان لكتاب إيروين شرودينجر لاستلهامهما منه الفكرة لتركيب الدي إن إي اللادوري.

محاولة فهم ما هي الحياة هو بحث قديم، ولكنه تجدد في العصر الحالي مع التقدم العلمي الهائل، ومع فهم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والأحافير والفلك وغيرها من العلوم، بدأت الأمور تتضح شيئا فشيئا حنيما بدأ العلماء باكتشاف تفاصيل دقيقة لبيولوجية وكيميائية وفيزيائية الكائنات الحية، ولكن لم يستطع أحدا إلى يومنا هذا أن يجيب على السؤال: ” ما هي الحياة؟ ” بوضوح.

لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!

في هذه الحلقة سأستعرض مجموعة من المعلومات التي تتعلق بمعرفة الحياة وتعريفها، ومكونات الحياة والغلاف الحيوي، وتجارب خاطئة لفهم الحياة، وأيضا عن تجربة ميلر ويوري، وكيفية ابتداء الحياة. ربما لن تجد ضالتك في هذه الحلقة، ولن تعرف بالتحديد ما هي الحياة، ولكنها ستعطيك انطباعا لبعض ما توصل إليه العلماء، وربما تفتح الحلقة لك المجال للنقاش مع الآخرين حول الموضوع.

كيف نعرف ما هي الحياة؟

اذهب إلى حديقة، وانظر إلى ما حولك، هناك رمال وصخور وماء وخشب، وستجد أيضا أن هناك نباتات بأنواع مختلفة، وستجد طيورا تطير السماء، وربما بعض الحشرات كالفراش والنحل، وبعض العناكب، أغرف من الماء غرفة بيدك، وضعها تحت المجهر، ستجد أن هناك أجساما صغيرة تتحرك فيه. كيف تفرق بين ما هو حي وما هو غير حي؟ هل الطير حي؟ هل النبات حي؟ ماذا عن الصخرة، هل هي حية؟ ماذا عن التراب هل هو حي أيضا؟ هل الماء حي؟ كيف علمت أن الأجسام الصغيرة التي تتحرك في الماء هي حية؟ هل لأنها تحركت فإذن هي حية؟ ماذا لو أنها كانت تتحرك ولكن بعد أو ضعتها على المجهر وسلطت عليها الضوء توقفت فجأة عن الحركة، فهل هي كائنات حية؟ أنت لا تعلم أنها كانت تتحرك في السابق، كل ما شاهدته على المجهر هي أجسام لا تتحرك.

ماذا لو أنك عالم في الأحافير، وبعد حفرك للأرض وجدت أجساما معينة لم ترها من قبل، فهل ستعتبرها كائنات كانت حية ثم بعد ذلك نفقت؟ ماذا لو أنك وجدت أن بداخل الصخور التي حفرت حولها قنوات صغيرة منتظمة جدا، فهل ستعتبر أن هذه القنوات كانت بيوتا لكائنات حية؟ كيف ستعرف ذلك؟ وإذا كان وجود نظاما معينا في الجسم هو الدليل على وجود حياة، فهل يعني ذلك أن كرسالات الثلج المنتظمة الجميلة الشكل هي أيضا حية؟ حينما نظر العلماء إلى المريخ باستخدام المناظير في السابق رأوا قنوتا منتظمة على السطح، فاعتقدوا أن هناك حضارة ذكية عليه، ولكن اليوم نحن نعلم أن المريخ لا يحتوي على حياة ذكية ناهيك عن وجود حضارة.

ناسا استطاعت أن ترسل مراكب كثيرة إلى المريخ، وواحدة من الأهداف الرئيسية التي تتبناها هو هدف البحث عن الحياة، فلو أنهم وجودوا أثرا لها سيقولون أن المريخ كان مؤهلا لها، قد لا تتوفر الحياة على السطح الآن، ولكنها ربما كانت متوفرة في الماضي. إذن، كيف ستعرف ناسا أن تلك الآثار تدل على وجود الحياة في السابق؟ وإن وجدت حياة أخرى تختلف عن الحياة على الأرض، فهل بإمكانها أن تقول أن تلك هي حياة؟

لنذهب إلى أبعد من ذلك، كيف يمكن للعلماء معرفة ما إذا كانت الظروف المناخية تسمح بتكون الحياة في الأساس؟ ما هي تلك الظروف المناخية المناسبة التي تسمح للحياة بالتكون؟ فكم هي درجة الحرارة الدنيا القصوى التي لا يمكن للحياة بالتكون فيها؟ ماذا عن الضغط الجوي المناسب؟ هل الأشعة الكونية تسمح للكائنات بالعيش؟ ماذا عن مكونات الأجواء من غازات، ما هي تلك الغازات التي تسمح للحياة بالبقاء؟

كيف بدأت الحياة على الأرض؟ العلماء يعلمون اليوم أنه ابتداء من أبسط أنواع الكائنات الحية إلى أكثرها تعقيدا فإن كلها تتكون من جزئيات، وهذه الجزئيات تتكون من ذرات، الذرات المشتركة بين الكائنات الحية معروفة، ولكنهم يتساءلون، كيف بدأت الحياة؟ كيف بدأ الخلق؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة يوفر فرشة تسهل على العلماء اكتشاف الحياة على الأرض أو في كواكب أخرى، ومن غيرها ربما لا تكتشف الحياة حتى لو أنها بين أيديهم وفي قلب أجهزتهم. وستسهل مثل هذه المفاهيم في معرفة ما إذا كانت هناك إمكانية لتكون الحياة على كواكب أخرى.

حتى أن مفهوم الحياة له أثر كبير في حياتنا الاجتماعية، فهناك صراع في اعتبار الجنين في بداية تكونه هو حي أم غير حي، فهل يمكن مثلا أن نسقطه حتى يستخدم العلماء الخلايا الجذعية التي فيه في إنقاذ حياة المرضى المحتاجين لها؟ مثل هذه الأسئلة تحتاج لإجابات دقيقة، حتى ترشد الفلاسفة ورجالات الدين في تكوين تصورات أكثر دقة في الأخلاق.

تعريف الحياة

إلى يومنا هذا لا يمتلك العلماء تعريفا واضحا للحياة، والسبب يعود لصعوبة تعريفه، فكلما وجدوا تعريفا مناسبا، كلما وجودوا شيئا مناقضا للتعريف، لذلك ستجد أن هناك الكثير من التعاريف، كل منها يمتلك جانبا من معاني الحياة أو جانبا من الصحة، ولكنه ينكسر بسرعة حينما يتم التمحيص فيه. ليس هناك اتفاق على أي من تلك التعاريف ليكون المؤشر النهائي لها.

الكل يعرف ما هو تعريف الماء، ويستطيع أن يصفه بدقة متناهية، فمن الممكن تعريف الماء على أنه ذرتي هيدروجين مرتبطتان مع ذرة من الأكسجين، ويمكن وصف الماء أيضا على أنه سائل شفاف بلا رائحة، ويمكن أيضا أن نقول أنه يتبخر عند درجة حرارة 100 سيليزية، ويتجمد عند درجة صفر سيليزية، وهناك صفات أخرى يمكن وصف الماء فيها، حتى إذا ما رأى أحدهم الماء يوما ما، ولم يكن ليره قبل ذلك، لتمكن من معرفة ما هو، فلا يحتاج لأن يراه مسبقا حتى يتعرف عليه لاحقا.

وهنا تكمن أهمية التعريف، الكثير من الفلاسفة والعلماء لا يحبون الحديث أو البحث في الشيء حتى يتم تعريفه بشكل جيد، لنفترض أننا أردنا أن نتحدث عن الحب، فلو أنك كنت تعتبر الحب هو مجموعة من المشاعر والعواطف من شخص تجاه شخص آخر، وأنا أعتبر أن الحب هو عطاء يقدمه طرف لطرف آخر، فلن يمكن لنا أن نميز المحب بطريقة نتفق عليها، فبإمكانك أن ترى رجلا منغمسا في تفكيره اليومي في امرأة، فتقول لي أنه يحبها، وفي المقابل الممكن أن ترفض أن تفكير وشغف شخص بلوحة فنية أو قصة جميلة حبا لعدم وجود الطرف الآخر في الحب، بينما في التعريف الآخر، لو أنني أرى أبا يحضن ابنه ويقدم له الهدايا يوميا فسأعتبر ذلك حبا، حتى وإن لم يكن يشعر بأي عاطفة ناحية الابن، وسيكون هناك اختلافا بينك وبيني فهم الحب، وبالتالي في فهم طبيعة البشر في التعامل مع الآخرين والأشياء من حولهم.

وتنطبق فكرة التعريف على الحياة، فلو عرفنا الحياة مثلا على أنها الجسد المتحرك ذاتيا، فهو يبحث عن الطاقة بنفسه، ويتحرك بنفسه. فسيكون مثل هذا التعريف منطبقا على الكثير من الكائنات الحية، فالصرصور يتحرك بنفسه، ويبحث عن الطعام ليبقي نفسه متحركا، وكذلك بالنسبة للكثير من الكائنات الحية بما فيها الإنسان، وكذلك أيضا فإن البكتيريا تتحرك، وتبحث عن الطعام، ولكن بالإمكان ندخل في هذا التعريف بعض انواع الروبوتات ليخل به، فمثلا أنا أمتلك آي روبوت (iRobot)، وهو روبوت منظف للسجاد والأرضيات، تشغله ليكنس السجاد، وحينما تشارف طاقته على الانتهاء يتوجه هو بنفسه إلى محطة الطاقة ليقف فوقها وتتصل أسلاك الكهرباء بوصلاته، ويعيد شحن نفسه. فهل الروبوت حي؟ لا يوجد من يدعي أن المكنسة الكهربائية – الآي روبوت – هي حية. وأيضا قد نقول أن بحسب هذا التعريف إن النبات غير حي، فهو لا يتحرك بالمعنى المتعارف عليه من الحركة، وإن كان ينمو، وبنموه يصل إلى مكان الغذاء فيتغذى عليه. إذن، بهذا يكون التعريف قاصرا، غير قادر على تصنيف الحياة بأسلوب معقول.

ماذا لو عرفنا الحياة على أنها الأجسام التي تنمو أو تتكرر (تتكاثر) ذاتيا؟ الآن نستطيع أن نقول أن النباتات ينطبق عليها هذا التعريف، وأيضا الحشرات والثديات والإنسان وحتى البكتريا، وهكذا اقتربنا من تعريف الحياة، قد يبدو أن هذا التعريف صحيح ودقيق لأول وهلة، حتى أن الآي روبوت لا يمكن إقحامه في هذا التصنيف، فهو لا ينمو ولا يكرر نفسه أو يتكاثر. ولكن المشكلة أنه لا يشمل الفيروس، فالفيروس لا يتكاثر ذاتيا، بل يحتاج لخلايا أخرى لكي تصنع من الدي إن إي أو الآر إن إي نسخ منه، فهل الفيروس هو غير حي؟ وكذلك ذكر البغال لا يستطيع أن يتكاثر، وبهذا التعريف يصبح البغل غير حي.

وإذا قلنا أن الأحياء تتكاثر ذاتيا، فلابد أن نقول أن معظم الأحياء غير حية، لأنها لا تتكاثر ذاتيا، فصحيح أن البكتيريا تتكاثر ذاتيا وتنقسم على نفسها، ولكن الحشرات والثديات والمعظم الكائنات الحية تحتاج لأزواج لكي تتكاثر، فذكر الغزال يحتاج للأنثى، وكذلك ذلك الطيور والحشرات، وحتى الإنسان لا يتكاثر ذاتيا، فالإبن لا يأتي من غير التزاوج. أما لو قلنا أن الفيروس الطبيعي لا يتكاثر ذاتيا فهو ليس بحياة، ماذا عن الفيروسات الكمبيوتر؟ هذه لديها القدرة على التكاثر بنفسها، فهي برامج قادرة على نسخ نفسها في البيئة التي تعيش فيها، فبما أنها تتكاثر فهي بحسب التعريف هي حية، لن يصدقك أحد إن قلت فيروسات الكمبيوتر كذلك.

حتى نتفادى بعض مشاكل التعريف السابق نستطيع أن نضيف للتعريف أن الكائنات الحية هي الأيضية، أي أنها قادرة على حرق الطعام، أنت حينما تأكل الطعام فإن جسمك يقوم بحرق الكربوهيدرات باستخدام الأكسجين لتحويلها إلى طاقة حرارية، إذن الحياة تنمو وتكرر نفسها باستخدام الأيض (Metabolism)، المشكلة في هذا التعريف أن يسمح للنار بالدخول في قائمة الحياة، فالنار تحرق وتستخدم الأكسجين، وهي أيضا تنمو وكذلك تكرر نفسها. بل لو أننا قلنا أن الأحياء تموت، فكذلك النار تنطفئ، ويمكن القول أنها تموت أيضا. فهل النار حياة؟

بإمكاننا أيضا أن نقول أن الكائنات الحية هي التي تستعشر ما حولها وتتفاعل معه، فالكائنات بإمكانها مثلا أن تستشعر الضوء، لترى ما حولها، وتتحرك في الإنارة بدلا من الظلام، أو أنها تستشعر الحرارة فتتعرق لتخفض حرارة الجسم، أو أنها تسمع الأصوات المخيفة لها وتهرب، أو الميكروبات تتغير في تفاعلها مع محيطها إذا تغير تركيز الأملاح فيها، أو إن عرضت البكتيريا للحمض فإنها تهرب منه، إذن الكائنات تستشعر مؤثرات في محيطها وتستجيب لهذه المؤثرات بشكل أو بآخر. بهذا التعريف بالإمكان إقحام بعض أنواع الروبوتات التي تستخدم الكاميرات لترى وتتفاعل مع الأجسام من حولها، أو حتى الثيرموستات الذي يتحكم بدرجة حرارة المكيف، فهو أيضا ينطفئ حينما تنخفض الحرارة، ويعود ليشغل حينما ترتفع الحرارة مرة أخرى.

هناك من يعرف الحياة على كل ما هو يتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، ذلك يعني أن الكائن الحي هو الذي يستطيع أن يتكيف مع البيئة ويتطور في كل جيل بناء على الانتخاب الطبيعي، ولكن حتى مع هذا التعريف سيبقى الإشكال مترافقا معنا، المشكلة هنا أيضا تكمن في أن هناك برامج كمبيوتر قادرة على التطور والتكيف في بيئة حاضنة لها، ولكنها لا تعتبر حياة.

قد يقول البعض أن الشيء الحي هو الشيء الذي يمتلك الروح، المشكلة في هذا التعريف أن حتى الروح غير معرفة بتعريف واضح متفق عليه، فلا يمكن بناء تعريف الحياة على الروح غير المعرفة، فمن الممكن أننا نقول أن الإنسان فيه روح، وكذلك الحيوان يمتلك الروح مثلا، ولكن ماذا عن البكتيريا، أو حتى الفيروس؟ هل لهما أرواح؟ ماذا عن النبات؟ هل للنباتات أرواح؟ وكيف يمكن لنا التوصل لوجود الروح فيها إن لم تكن هناك أي وسيلة لمعرفة الروح ذاتها، أنا أنظر للفيروس تحت المجهر وأقول لك أنه بلا روح، وأنت تنظر له وتقول أن له روحا، كيف لنا أن نفصل النزاع بيننا؟ إذن حتى الروح لا يمكن استخدامها في تعريف الحياة.

حتى التعريف الذي ألفه الفيزيائي شرودنجر عن الحياة في محاضراته، والذي يعتبر ربما من أغرب وأكثر التعاريف اختصارا وجمالا لا يعد تعريفا مناسبا، فقد عرف الحياة على أنها تلك التي تقاوم الفوضى، هنا شرودنجر يعتمد على القانون الثاني للديناميكا الحرارية، فمبدأ هذا القانون يقول أن الأنظمة في الطبيعة تتجه لزيادة في سوء التنظيم (ربما أنا حاولت أن أبسط القانون، وقد أكون غير دقيق في ذكره، ولكن هدفي هو إيصال الفكرة). تخيل مثل لو أنك تركت حديقة المنزل من غير اهتمام منك، مع الأيام ستزداد الحديقة سوء، وستموت النباتات، وتطول، ثم بسبب انقطاع الماء عنها ستصفر، ثم ستتجمع الأوساخ التي تطايرت إلي داخل الحديقة، وستتاقط أوراق الشجر، وهكذا شيئا فشيئا ستتحول من حديقة منتظمة إلى غير منتظمة، قارن هذا مع الحياة، فهي شيء منتظم، فهي تمتص الطاقة من حولها وتقوم بعمليات منتظمة شأنها التقليل من سوء النظام. طبعا لابد أن نراعي أن النظام في الكون بشكل عام يزداد سوء، فحتى وإن كانت الحياة منتظمة، إلا أنها تزيد في سوء النظام خارج محيطها، في مقابل تخفيظها بداخل محيطها. حتى تعريف شرودنجر غير مناسب لتعريف الحياة بدقة، لأن بعض الكريستالات المختلفة تعتمد على أخذ الطاقة من المحيط لتصبح أشكالا منتظمة، ولكنها لا تعد هي في ذاتها حياة.

العلماء حذرون من انتقاء تعريف قد لا يتناسب مع المكتشفات التي ستأتي من خارج الكرة الأرضية، فماذا لو أنهم عرفوا الحياة بطريقة تتماشى مع ما يرونه على الكرة الأرضية دون فتح المجال لإمكانية أن تكون الحياة بشكل آخر؟ ذلك سيؤثر على الآلات التي سيصنعونها لاكتشاف الحياة خارج الأرض، فإذا بعثوا مراكب فضائية مجهزة فقط بأجهزة تكتشف الحياة كما عرفوها، فلربما لن يكتشفوا حياة تختلف عما يعرفونه، أو لو أنهم قرروا أن الحياة لا يمكن لها أن تعيش في بيئة معينة ذلك يعني أنهم قد يغضوا الطرف عن كواكب قد تعيش عليها حياة في بيئات مختلفة.

وربما مع المكتشفات خارج الكرة الأرضية في المستقبل سيتمكن العلماء من وضع تصور أفضل وتعريف أكثر شمولية للحياة، خصوصا أن كل ما لدى العلماء اليوم هو نموذج واحد للحياة على الأرض، كل تراكيبها تتشابه في العموم من مواد كيميائية وهي تعيش في ظروف بيئية واحدة.

إذن ما الحل؟ الحل في أن العلماء وبغض النظر عن التعريف يقومون بمحاصرة الحياة بأساليب أخرى، فمنها محاولة إضفاء أوصاف مختلفة عليها، وكذلك فهم يحاولون أن يحددوا مكونات الحياة التي تجمع بين كل أنواع ما يعتقد أنها حياة، بالإضافة لذلك فهم يقومون بتحديد الظروف البيئية التي من الممكن أن تنشأ فيها الحياة. وبذلك يصبح عملهم كعمل النحات الذي ينحت في الصخور محاولا الوصول إلى الشكل النهائي تدريجيا. أو مثل عالم الآركيولوجي الذي يبحث في الأرض عن آثار لفخار قديم، فيزيل التراب تدريجيا حتى يكتشف شكل الفخار على هيئته الحقيقة.

في المحصلة النهائية، يصف العلماء على أن الحياة هي التي تحتوي على الأمور التالية، هذه الأوصاف ضرورية، ولكنها كافية (Necessary but insufficient):

1. منتظمة في تراكيبها وهيكليتها تنظيما عاليا.

2. تقوم بعمليات الأيض، حصاد الطاقة من حولها (Metabolism)

3. تتكاثر (أو تستنسخ) ذاتيا سواء أكان ذلك جنسي أو لا جنسي.

4. تستشعر ما حولها في البيئة وتتفاعل معه.

5. تنمو، ربما تزداد خلاياها وتكبر.

6. تتطور بالانتخاب الطبيعي للتأقلم مع بيئتها عبر الأجيال.

مكونات الحياة والغلاف الحيوي

ما هي المكونات الأساسية للحياة، أي ما هي الذرات التي تتكون منها جميع أنواع ما يطلق عليه العلماء بالأحياء؟ هناك تراكيب معينة مشتركة بين كل الكائنات الحية، بعض الحياة تحتوي على مركبات لا تحتوي عليها الكائنات الحية الأخرى، ولكن العلماء حددوا المركبات الدينا التي تشترك فيها جميع الكائنات، يمكن اختصار حروفها بكلمة تشنوبس (CHNOPS)، وفي حروف هذه الكلمة جميع الذرات المشتركة: الكربون، الهيدروجين، النيتروجين، الأكسجين، الفسفور، والكبريت، أو باللغة العربية بالإمكان استخدام كلمة “ككهفنا” للتعبير عن المواد المشتركة (استخدمت برنامج يعطي جميع التباديل للكلمات، ثم وضعت الكلمات في الميكروسوفت ورد، ومسحت جميع الكلمات التي لم تكن في قاموسه، ثم اخترت كلمة مناسبة للحفظ). لو أنك أخذت كل كائن حي على وجه الأرض اليوم، لوجدت أن كلها تشترك بهذه المواد، فقد يحتوي جسدك على الحديد، ولا يكون ذلك متوفرا في البكتيريا، ولكن على الأقل نحن نشترك مع البكتيريا بالمواد الأخرى التي ذكرتها قبل قليل.

اكتشفت عالمة الميكروبيولوجي فليسا ولف سايمون (Felisa Wolfe-Simon) من ناسا حياة تختلف مكونتها عن باقي الكائنات، فبدلا من أن تحتوي على CHNOPS، كانت تحتوي على مادة الزرنيخ Arsenic، الزريخ مادة سامة وتقتل معظم الكائنات على وجه الأرض، إلا أن الاكتشاف الذي اكتشفته ناسا هي أن بعض الميكروبات تتكون تركيباتها الكيميائية منه، فالزرنيخ هي مادة قريبة كيميائيا من الفسفور، وهذا يعني أن الكائن الحي المكون من هذه المادة يختلف اختلافا مهما عن كل الكائنات المعروفة، وخصوصا أن الدي إن إي هو الذي احتوى على المادة السامة.

انتشر الخبر كالنار في الهشيم على الإنترنت، وتناقلته وسائل الأخبار حول العالم، وصرحت ناسا به في مؤتمر صحفي ضم مجموعة من العلماء، وفهم الناس عمق مثل هذا الاكتشاف، فلو أن الحياة تتكون من مواد أخرى تختلف عن كل بعض مواد الرئيسية في الكائنات الموجودة في شجرة الحياة، ذلك يعني وجود شجرة حياة أخرى بصفات جديدة، وهذا يعني أن الحياة من الممكن أن تتكون بطريقة أخرى تختلف عن المتعارف عليه على الأرض، فإذا كانت هناك حياة مختلفة هنا، فلماذا لا تكون هناك حياة مختلفة على كواكب أخرى، وبالتالي سيكون تعريف الحياة أكثر شمولية واتساعا.

ولكن سرعان ما تدارك علماء الميكروبيولوجي الخبر، وبدأوا بالبحث في هذه الميكروبات، واكتشفوا أن الادعاء الذي ادعته (فليسا) لم يكن صحيحا، بل إن الميكروبات هذه كانت مجرد قادرة على تجميع الزرنيخ بداخل الخلية في بعض الجزيئات بدلا من الفسفور، ولكنها لم تستبدل الفسفور في الدي إن إي. ونشر العلماء ورقتين علميتين العلمية في مجلة ساينس الشهيرة (Science) تنفي صحة الخبر، ولم يعد لهذا الاكتشاف أي سحر، وفقد قدرته على توسعة المواد التي تتكون منها الحياة. إذن، الحياة كما نعرفها اليوم لا تتكون من مواد أكثر من الستة في الاختصار CHNOPS أو ككهفنا.

ذلك كان بالنسبة للمواد المشتركة، ماذا عن البيئة الحاضنة أو الغلاف الحيوي (Biospace or Biosphere)؟ أحضر كوبا (مثل كوب القهوة الكبير)، اقلبه على ورقة، احضر قلم رصاص نحيف جدا، ثم خط بالقلم بمحاذات فوهة الكوب لترسم دائرة، لو افترضنا أن الدائرة هذه تمثل محيط الكرة الأرضية، لكان الخط هذا يعبر عن أماكن تواجد الحياة عليها، بل إن سماكة خط قلم الرصاص ستكون أكبر بكثير من المساحة الكلية التي تعيش فيها الكائنات الحية، فهي موجودة على السطح وكذلك في السحب وأيضا في باطن الأرض والبحار، ولكنها لا تذهب إلى أعماق كبيرة، ولا تصعد إلى خارج الغلاف الجوي. والسبب يعود لكون الحياة محصورة في مجال بسيط من الظروف البيئية. فلا هي تتحمل الحرارة العالية، ولا الضغط الكبير، ولا الأشعة الكونية، ولابد أيضا لوجود الماء والمواد المختلفة الكيميائية التي تُكوِّن الحياة.

ما هي الحدود القصوى والدنيا لإمكانية تكون الكائنات الحية أو بقاءها حية لفترة طويلة من الزمن؟ لو أنك تأتي بخلية حية مثل خلية البكتيريا وتعرضها للحرارة العالية، فإنها ستموت، العلماء يعتقدون أن الحد الأقصى حراريا لبقاء الكائنات على قيد الحياة هو 122 درجة مئوية بحسب ما هو مكتشف من كائنات حية قادرة على التأقلم مع مثل هذه الدرجة العالية، مثل هذه الحرارة تمنع الكائنات الحية من التواجد بداخل الأرض في أعماق غزيرة جدا، فكلما اقتربنا من مركز الأرض، كلما ارتفعت درجة الحرارة مما لا يسمح للكائنات بالبقاء حية.

أو لو أنها تعرض للأشعة الكونية ربما لن تعيش أيضا، أقام العلماء تجربة لتعرف ما إذا كانت الكائنات الحية تستطيع العيش في الفضاء الخارجي حيث تتعرض لأشعة قاتلة تأتي من الشمس، الأرض تحمي سكنها من هذه الأشعة بعدة أمور منها الغلاف الجوي ومنها المجال المغناطيسي، فهل تستطيع الكائنات الحية أن تعيش في خارج البيئة التي تحميها من هذه الأشعة؟

أرسل العلماء 300 نوع من الميكروبات إلى المحطة الدولية الفضائية، ووضعت هذه الميكروبات خارج المركبة. فتعرضت لعدة ظروف قصوى منها: الأشعة الفوق بنفسجية، وأشعة أخرى مؤينة، والفراغ الخالي من الأجواء، ودرجات حرارة تتراوح بين 20 إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر، وكذلك جاذبية مخففة جدا، بالإضافة لعدم وجود أي غذاء تتغذى عليه. وضعت هذه الميكروبات في غبار نيزكي مصنع، ربما تستطيع أن تتخيل السبب لمثل هذه التجربة، فهل يمكن أن تحمل النيازك حياة على متنها ونقلها إلى كواكب أخرى؟ أو من الممكن أن نتساءل هل يمكن أن تنقل ناسا ميكروبات إلى المريخ؟ لو أن ناسا نقلت ميكروبات من الأرض إلى المريخ، وهي تحاول البحث عن حياة هناك فكيف ستميز ما إذا كانت الحياة هذه أصلها من الأرض أم من المريخ؟ ماذا لو أن هذه الميكروبات لوثت سطح المريخ، فهل يعني ذلك أنها ربما ستبدأ بالانطلاق هناك لتتطور ثم لتتكون حياة جديدة؟

بعد سنة وعشرة أشهر من التجربة أعيدت الميكروبات إلى الأرض للفحص، اكتشف العلماء البكتيريا أن برسيلاس ستاليس (Bacillus subtilis) نفذت بجلدها في الفضاء الخارجي، حيث اتجهت للسبات وانتظرت إلى أن توفرت الظروف والغذاء ثم عادت للتكاثر مرة أخرى، لكن لا يعني ذلك أنها لم تتأثر، لا ننسى أنها تحتوي على دي إن إي، وهو يتكون من جزئيات مترابطة مع بعضها، وحينما تتعرض جزيئاته للأشعة فإنها قد تتلف، لذلك عمل العلماء لمعرفة مدى التأثر والتغير الذي طرأ على هذه البكتيريا.

العديد من التجارب أقيمت على الكائنات لمعرفة الظروف القصوى أو المجال المسموح به للبقاء حية، أهمية هذه التجارب تكمن ليس فقط في معرفة ما إذا كانت هي قادرة على أن تعيش في ظل هذه الظروف، بل هي لمعرفة ما إذا كان بالإمكان أن تنشأ في أماكن أخرى في الكون، بحيث تكون أجواء تلك الكواكب مختلفة عن الأرض، فهل تستطيع أن تتكون هناك؟ فمواد ككهفنا التي تُكوّن الدي إن إي مثلا مترابطة بقوة ضعيفة كيميائيا، الظروف المحيطة القاسية تستطيع أن تكسرها بسهولة، فبمعرفة هذه الظروف بإمكان العلماء بسهولة معرفة الكواكب الآهلة لحياة مشابهة للأرض، وذلك بمجرد معرفتهم من بعيد لمناخ تلك الكواكب.

تجارب خاطئة لفهم كيف تنشأ الحياة

في القرن السابع عشر انتشرت فكرة تكون الحياة من خلال “التوليد التلقائي” (Spontaneous Generation)، أي أن بعض الكائنات الحية تنشأ تلقائيا من خلال وجود حياة أخرى تولدها، فمثلا من الممكن لو أننا قطعة من اللحم في مكان دافئ، وتركنا اللحم لفترة من الزمن، فستنشأ عليه كائنات حية مثل الديدان أو اليرقات، أو من الممكن أن تنشأ الفئران بالتوليد التلقائي من خلال وضع القليل من قشور القمح وملابس داخلية بداخل حاوية مغلقة، ونأتي لتلك الحاوية بعد 21 يوما سنجد أنها تحتوي على الفئران، قد تكون مثل هذه الفكرة غريبة، ولكن الناس كانوا يعتقدون بإمكان حدوثها. بل أقام البعض التجارب “العلمية” لإثباتها، فمن الممكن أن نجرب أن نضع قطعة من اللحم في مكان دافئ وإذا بالحياة مثل الديدان تدب على سطحه، ونحن نعلم أن مثل هذا الشيء يحدث في الحياة اليومية.

لم تتغير فكرة التوليد التلقائي حتى قام العلماء بتجارب علمية دقيقة ومنضبطة، وبعد التحليل المنطقي لتلك التجارب الغير منضبطة اكتشف الناس أن مثل تكون فئران في حاوية قشور القمح لم يكن إلا سوء ملاحظة، حيث أن القمح المنقول للحاوية كان يحتوي على الفئران الصغيرة بداخل القمح قبل نقلها، وأن الملابس الداخلية ليس لها أي تأثير في توليدها. أضف لذلك التجارب العلمية الدقيقة التي قام بها الطبيب والشاعر الإيطالي فراسيسكو ردي (Francisco Redi)، لم تدع مجالا للشك في أن الديدان التي نشأت على اللحوم كان تحتوي على بيض الذباب وبعد ذلك فقست لتصبح يرقات.

لكشف حقيقة التولد التلقائي قام ردي بإحضار 6 قناني، قسمهم إلى مجموعتين، كل مجموعة تحتوي على ثلاث قناني، في كل قنينة من المجموعتين وضع سمك ميت ولحم ني وجسم غير معروف، قام بتغطية المجموعة الأولى بغطاء شبكي بحيث لا يسمح للذباب بالدخول فيها، ولكنه سمح للمواد المختلفة بالتعرض للهواء، أما المجموعة الثانية فلم يغطيها، وإذا بعد أيام بدأ الدود بالتكون على اللحم المكشوف فقط، وأما المجموعة المغطاة بالشبك فلم يتكون عليها شيء، ومنها ومن تجارب عديدة أكدت له بلا أدنى شك أن الذباب هو السبب في تكون اليرقات، حتى أنه أخذ اليرقات، وتركها لتكبر وإذا بها تتحول إلى ذباب.

هذه الأفكار القديمة حول التولد التلقائي للحياة ألغيت بعد مثل هذه التجارب، ولم تعد محل اعتبار في نظر العلماء اليوم.

تجربة يوري وملير

واحدة من أكثر التجارب العلمية شهرة على نشوء الحياة من المكونات الكيميائية هي تلك الملقبة بتجربة يوري وملير، تعتمد فكرة التجربة على تكوين الأجواء الطبيعية التي كانت موجودة في بدايات نشأة الأرض، ومنها محاولة معرفة إن كان بالإمكان تكوُّن التراكيب الموجودة في الكائنات الحية كما نعرفها، وقد أساء الكثير من الناس فهم أهداف هذه التجربة، فهناك من يعتقد أن العلماء الذين قاموا بها كانوا يهدفون لخلق الحياة بداخل وعاء، ويدعي البعض أن التجربة فشلت في تكوينها، ولكن الحقيقة أن التجربة نجحت فيما كان مخططا لها. بل لا يزال العلماء يراجعون نتائج التجربة لمعرفة ما إذا كانت هناك مواد عضوية أخرى لم تكتشف في ذلك الوقت.

التجربة التي أقامها العالمان ستانلي ميلر (Stanley Miller) وهارولد يوري (Harlod Urey) في سنة 1953 هي تجربة بسيطة، كانت تحاول اكتشاف ما إذا كانت الأرض في حالتها الأولى وقبل تكون الأكسجين وثاني أكسيد الكربون بإمكانها أن تكون موادا عضوية، هذه المواد العضوية تعتبر المكون الأساسي للتركيبة الكيميائية للحياة. قبل أن يكون هناك أكسجين وثاني أكسيد الكربون على الكرة الأرضية، كانت السماء مليئة بالسموم، ولو أننا نعيش في نفس الأجواء في تلك الأيام لما استطعنا أن نتنفس، ولنفقت معظم الكائنات الحية على الأرض. وبالرغم من ذلك فإن مثل تلك الأجواء السامة، ستكون بيئة مناسبة لتكون التراكيب الابتدائية.

كان الاعتقاد السائد بين العلماء آنذاك أن الأرض كانت تحتوي على الماء والميثان والهدروجين والأمونيا ولم تحتوي على ثاني أكسيد الكربون أو الأكسجين، ولو أن هذه المواد عُرِّضت لظروف مناخية سائدة في تلك الفترة ستتركب الجزيئات على بعضها في عمليات كيميائية لتتكون موادا عضوية والتي هي أساس ما تحتويه الخلايا في أي كائن حي. وقد أسس لهذه الفكرة العالم الروسي أليكساندر أوبارين (Alexander Oparin)، وكتب كتابا يشرح فيه فرضيته. واعتمد العالمان على هذه الفكرة لإقامة التجربة.

وضع العالمان يوري وميلر قنينة بها ماء، وفي أعلى القنينة أوصلوا أنبوبة ترتفع إلى الأعلى ثم تعود لتنزل في قنينة أخرى، وهذه القنينة الثانية تحتوي على الغازات: الميثين، والأمونيا، والهيدروجين. واحتوت القنينة أيضا على سلكي كهرباء، لتوليد الشرارة الكهربائية بينهما، قد تكون شاهدت تولد القوس الكهربائي بين طرفين من الأسلاك، حينما يكون فرق الجهد بينهما عال، هذه الشرارة تماثل البرق الطبيعي. يسخن الماء من أسفل القنينة فيتبخر، ويمر عبر الأنبوب إلى أن يصل إلى القنينة الأخرى، فيجتمع مع الغازات المختلفة، ثم تعرض هذه المواد للشرارة، ثم تهبط هذه الخلطة التي تكونت في الأسفل خلال أنبوب متصل بالقنينة الثانية وتترسب في الأسفل.

حينما نظر ميلر إلى المواد المترسبة اكتشف أنها تحتوي على الأحماض الأمينية، وهي المكون الأساسي للبروتينات. كانت هذه التجربة دليلا على أن الأرض لو كانت بهذه الظروف وبهذه الغازات لتمكنت من إنتاج الجزيئات المناسبة لنشوء جزء أساسي من البروتينات.

تجربة ميلر ويوري

نشرت مقالة قصيرة جدا في مجلة الساينس الشهيرة، وإلى يومنا هذا يضرب المثل بهذه التجربة، ولكن هناك جانبان أساسيان يجب الانتباه لهما بالنسبة للنتائج. صحيح أن بعض المواد المستخدمة كانت موجودة في الأرض في سنواتها الأولى، وصحيح أن التجربة نجحت في إنتاج المواد العضوية، إلا أن الظروف التي اعتقد العلماء أنها كانت موجود في المليار سنة الأولى لم تكن دقيقة، فقد اكتشفوا أن الأرض كانت تحتوي على نسبة متدنية منها، بل كانت هناك غازات أخرى في الأرض كثاني أكسيد الكربون والأكسجين (بنسب مختلفة عما هي عليه الآن).

النقطة المهمة الأخرى هي أن الكثير من الناس يدعي أن التجربة لم تنجح، وهذا غير صحيح بتاتا، بل أن التجربة أنتجت موادا عضوية كما تصور العلماء، الخطأ الشائع بين الناس أن التجربة كان هدفها هو تكوين حياة في المختبر، الصور الذهنية التي يتخيلها البعض أن ميلر ويوري كانا يعتقدان أنه بمجرد إجراء هذه التجربة ستتكون حياة بكتيرية أو كائنات حية تتحرك بداخل القنينة، لم يكن هذا هو الهدف.

ولكن من الواضح أنه لو كان الهدف هو هذا الشيء (إنتاج الحياة) لكان بالإمكان القول أن التجربة فشلت، مثل هذه الإشاعة لم تكن إلا استهدافا للأبحاث التي يعمل بها العلماء لفهم الحياة، الإشاعة المفبركة هي التي تتهم التجربة بأهداف خاطئة حتى تدعي أن التجربة فاشلة، وهذه هي مغالطة رجل القش، والتي يختلق فيها المجادل حجة ضعيفة ثم يحاول أن يفند الحجة الحقيقة بها.

كيف بدأت الحياة؟

تحدثنا عن تجربة يوري وملير، هذه التجربة وإن كانت بسيطة إلا أنها تبين شيئا مهما، وهو أن طبخ المواد مع بعضها قد تَنتج منه المكونات الأساسية للحياة، المشكلة في الحقيقة ليست فيما إذا كانت التجارب تُنتج المكونات الأساسية للحياة، لأنه من المعقول جدا أن تتكون جزئيات أو تراكيب أولية من عمليات كيميائية، المشكلة الكبرى هي كيف تشكلت هذه المكونات لتكون البروتينات والدي إن إي والآر إن إي؟ ثم كيف دخلت كل هذه المكونات بداخل جدار الخلية؟ ربما تكون الإجابة على هذا السؤال من الصعوبة بدرجة التي جعلت الفيسلوف “آنتوني فلو” الشديد الإلحاد في التحول إلى الإيمان بوجود خالق كما ذكر في كتابه: “هناك إله” (There is a God).

هناك مشكلتان أساسيتان في الموضوع، المشكلة الأولى هي أن الخلية الحية تحتوي على مجموعة من المكونات المعقدة، ففيها الدين إن إي، وفيها البروتينات، وفيها أيضا الغلاف المحيط بالخلية الذي يغلف جميع المكونات (بالإضافة لإمور أخرى، ولكن لنركز على هذه الأشياء بالخصوص)، السؤال الأول: ما هو الجزيء الذي تكون أولا، هل تكون الدي إن إي أولا أم البروتينات؟ البروتينات يمكن مماثلتها بجهاز الكمبيوتر، والدي إن إي بالبرمجة أو الشفرة، لا يمكن الاستفادة من جهاز الكمبيوتر إن لم يكن هناك برامج بداخله، ولا يمكن الاستفادة من البرمجة إذا لم يكن هناك كمبيوتر يعالجها خطوة بخطوة. فلا يمكن أن يتم تكرار الدي إن إي من غير البروتين، حيث أنه هو الآلة التي تمسك بالدي إن إي وتعمل على نسخه، ولا يمكن إنتاج بروتينات إن لم يكن هناك دي إن إي، فالدي إن إي هو الذي يحتوي على المعلومات التي تشفر لتصنيع البروتينات. مشكلة البيضة والدجاجة مرة أخرى.

أضف لذلك، كيف دخل الإثنان إلى داخل الخلية؟ هل جدار الخلية كان موجوا أولا، ثم بعد ذلك تكون الدي إن إي والبروتين بداخلها، أم أنهما تواجدا أولا ثم أحاط بهما جدار الخلية؟ ما هو الاحتمال الذي يسمح لمثل هذه الثلاث أشياء أن تجتمع؟ الاحتمالات كبيرة جدا.

بل إن الاحتمالات في تكون الدي إن إي ذاته هي معضلة أكبر، وهذه هي النقطة الأساسية في رحلة آندروا فلو للتحول من الإلحاد إلى الإيمان، حيث أن المأزق الأساسي يتعلق بالمعلومات، فالدي إن إي هو حامل لشفرة تشكيل الحياة، بمجرد أن يمسك البروتين بالشفرة يتحرك لصناعة المكونات بداخل الخلية، ثم تنقسم، وتتكر العملية، كيف يمكن لهذه الشفرة المعقدة أن تتشكل؟

تخيل لو أعطيتُ لك الحروف الأبجدية، وطلبت منك أن تعيد كتابة القرآن الكريم، لنبدأ من أول كلمة في القرآن وهي “بسم”، اكتب الحروف الأبجدية على أوراق متفرقة، ثم ضعها في كيس، واسحب ثلاثة أوراق منه، ما هو الاحتمال أن تخرج لك الكلمة الأولى؟ بحساب التوافيق الرياضية نكتشف أن الاحتمال هو 1 من 3276، هذا فقط لكلمة واحدة، الآن ما هو الاحتمال لأن نسحب حروف الكلمة الثانية وهي “الله”؟ نكتشف أن الاحتمال هو 1 من 20475، الاحتمال أن تنتقي هذين الكلمتين بالتوالي هو 1 من 67,076,100، هذا فقط لكلمتين، فكيف إذن بجميع كلمات القرآن؟ إذا كان هذا بالنسبة لكلمات القرآن، فكيف إذن تسلسلت الجينات لتحتوي على شفرة أو معلومات كاملة لتكوين الكائنات الحية كما نراها اليوم، مثل هذه المعلومات لا يمكن أن تنشأ بالصدفة أو من خلال العشوائية.

دعنا من الدي إن الإي الذي تطور باستخدام نظرية التطور ليصبح أكثر تعقيدا كما هو في الإنسان مثلا، لقد ذكرت في حلقات سابقة أن نظرية التطور هي نظرية يتفق عليها العلماء، ليس النقاش في الدي إن إي البالغ التعقيد، بل حتى في أبسط تركيباته، السؤال يرجع لبداية تكون الدي إن إي لأول كائن حي، حتى أبسط الكائنات الحية تحتوي على الآلاف من الأحماض الأمينية في الدي إن إي، فكيف لها أن تتراكب بطريقة يمكن لها أن تشفر للحياة؟ فالاحتمالات الهائلة تعني أن المطبخ الأرضي لم يكن باستطاعته تكوين هذه التسلسلات في الفترة الزمنية المناسبة، حتى لو كان الطبخ لمليارات السنوات.

هذه لا تزال مشكلة لم يستطع العلماء علاجها، وربما ستأخذ سنوات عديدة لحلها، وقد لا يصل العلماء إلى حلها أبدا، فالظروف التي بدأت فيها الحياة غير معروفة بالكامل، وكذلك الطرق التي تؤدي إلى تكون الدي إن إي متعددة، أُشبهها بالإهرمات أو بعض الأبنية القديمة، لم يدون الصناع طريقة البناء، ولا تركوا خرائط لنراها، لذلك في محاولة العلماء لاكتشاف الطريقة التي أنشأت بها هذه الأبنية يقترحون عدة احتمالات، ولكن لا يُعرف أي منها كانت هي الطريقة الصحيحة. فهل سيكتشف العلماء كيف تكوت الحياة؟ هذا السؤال ندعه للمستقبل، وخصوصا أن هناك تحركات كبيرة لحل السؤال، العلماء في المختبرات والمفكرون يعملون ليل نهار، فكما علموا أن الحياة اليوم تطورت تدريجيا لتصل إلى ما هي عليه من تعقيد، وكذلك كما اقترحوا عدة طرق لإنشاء الإهرامات، فلربما يأتي اليوم الذي تُكتشف فيه الطريقة التي نشأت فيها الحياة في البداية.

قصة الحياة من البداية

انفجر الكون انفجارا عظيما، وتكونت النجوم والمجرات والكواكب على مدى مليارات السنوات، واحدة من هذه المجرات كانت مجرة درب اللبانة، وبداخل هذه المجرة تكونت الشمس قبل 4.5 مليار سنة، ومع تكون الشمس تكونت مجموعة من الكواكب من حوله، واحدة من هذه الكواكب كانت هي الأرض، كانت الأرض حارة جدا في البداية، وبدأت حرارتها بالانخفاض، كانت مليئة بالغازات التي تختلف نسبها عن نسب الغازات الحالية، بعد فترة من الزمن بعد حوالي 800 مليون إلى مليار عام منذ بداية تكون الأرض (أي قبل 3.5 مليار سنة تقريبا) ظهرت أول كائنات حية بسيطة جدا، كانت مجرد خلايا من نوع بروكاريوت (Prokaryote)، ثم بعد ذلك وقبل 3.4 مليار سنة تكونت الحياة القابلة للتمثيل الضوئي، ثم بعد 2 مليار سنة تكونت الحياة المعقدة الملقبة بيوكاريوت (Eukaryotes)، وقبل مليار سنة في الماضي ظهرت الحياة المتعددة الخلايا، ثم حدث الإنفجار في تنوع الكائنات الحية، حيث أن قبل 542 مليون سنة في الماضي تنوعت الكائنات على مدى 80 مليون سنة بسرعة هائلة، تسمى هذه الفترة بالإنفجار الكامبري (Cambrian Explosion)، لم يكن لها مثيل لا في الماضي ولا في الحاضر، ثم ظهرت الديناصورات قبل 230 مليون سنة، وبقيت هي المهيمنة على الأرض حتى 65 مليون سنة، ثم بعد ذلك انقرضت فيما يظن العلماء بسقوط نيزك هائل قضى عليها كلها تقريبا، ولكن بقيت بعض الحيوانات تحت الأرض وبعض الطيور، وإلى أن بدأت حقبة الثديات، وهكذا إلى أن ظهر البشر قبل حوالي 6 ملايين سنة وإلى يومنا هذا مع باقي الثديات.

العلماء يعرفون هذا التدرج من خلال الدراسات العلمية، ابتداء من الإنفجار العظيم إلى يومنا هذا، من الواضح أن هناك تدرج منطقي لما يحدث في الكون من البداية إلى الوقت الحالي، الصورة مجزأة، ولكنها مؤشر واضح على أن الكائنات أخذت هذا المنحى في الحركة من البسيط إلى المعقد كما نراه اليوم، نشوء الكون وتكون النجوم والمجرات والكواكب في مجمله واضح بالنسبة للعلماء الفيزيائيين، وكذلك نظرية التطور التي تحكي قصة انتقال الكائنات من حالة إلى حالة إلى وصولها إلى يومنا هذا، النظرية أيضا واضحة وصريحة في تدرج الكائنات الحية، بين هذين التدرجين تبقى هناك معضلة، وهي تكون الكائنات في بداية انطلاقها، لا يزال البحث قائما في هذا المجال، العلماء لا يعلمون كيف بدأ الخلق، ولكنهم لا يشكّون في أن هناك تدرج طبيعي له.

من الواضح أن العلماء في الغرب والشرق يبحثون عن فهم لبداية تكون الحياة، ولكن في هذه المنطقة التي أعيش فيها فحتى التساؤل شبه معدوم، بحثت على الإنترنت عن جملة “ما هي الحياة؟” فلم أجد إلا إجابات لأسئلة نفسية ودينية، لم أجد شيئا في الجانب العلمي إلا ما ندر، وحتى إن تحدثت عن الكائنات الحية، لم أجد سوى بساطة في محاولة فهمها، بحثت أيضا عن جملة “كيف بدأ الخلق” استنادا على الآية الكريمة التي تقول: ” قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ”، فوجدت أن جل الإجابات على السؤال تعتمد على الدين، ليس هناك من يجلس في المختبر ويبحث بحثا علميا في الموضوع، وبعض الإجابات تحاول أن تجيب على السؤال حول تكون الكون والانفجار العظيم، كل الإجابات تأخذ النتائج التي خرجت من مختبرات الغرب والشرق للإجابة، بينما من الواضح أن السير هو في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق هنا وليس الكون كله. أرجو أن بهذا الطرح البسيط عن الحياة أن تستثار العقول ونخرج للبحث عن الحياة على باستخدام أصول العلم الطبيعي.

الدلائل على تكون الحياة كثيرة، ولكننا نحتاج لشخص يوحد هذه المعلومات في ملاحظات دقيقة جدا للوصول إلى معرفتها بشكل صحيح، وإلى طريقة تكونها في البداية، ربما تكون أنت الشخص الذي يجد الحل، وستكون بمثابة نيوتن أو آينشتاين أو داروين، ويخلد اسمك في التاريخ.

ما الذي لم أتحدث عنه في هذه الحلقة؟

هناك العديد من الأمور التي كنت أود التحدث عنها في هذه الحلقة، ولكن قررت أن أدعها لحلقات أخرى. وهي

1. من سبق؟ الدي إن إي أو البروتين أو الآر إن إي؟ وكذلك تجربة سبيجلمان الملقبة بـ”الوحش الصغير” وهي تجربة مثيرة جدا.

2. هناك العديد من التجارب الأخرى غير تجربة ملير يوري لفهم كيف نشأت الحياة، لم أذكر أي منها.

3. هناك أيضا عمل كريج فنتر في تخليق أو تصنيع خلية في المختبر، أو بالأحرى تكوين الدي إن إي في المختبر وزرعة في خلية ثم إحياءها.

4. البحث عن أقصر دي إن إي بحيث يكون قادرا على أن يشفر للحياة.

5. البحث عن الحياة في كواكب أخرى، هذا بحد ذاته يحتاج لحلقة كاملة.

المصادر

  1. Life at the Speed of Light: From the Double Helix to the Dawn of Digital Life, J. Craig Venter.
  2. What is life?, Erwin Schrodinger.
  3. Origins of life, Freeman Dyson.
  4. A Production of Amino Acids under Possible Early Earth Conditions, Stanely Miller.
  5. There is a God, Antony Flew.
  6. Astrobiology and the Search for Extraterrestrial Life, University of Edinburgh, Charles Cockell, lectures at Coursera, 2014
  7. Astronomy 141: Life in the Universe, The Ohio State University, Richard Pogge, 2009, Audio Lectures.
  8. NASA-Funded Research Discovers Life Built With Toxic Chemical, Nasa.
  9. Scientists say NASA’s ‘new arsenic form of life’ was untrue, Kerry Sheridan, 2012.
  10. Are Viruses Alive, Scientific American, December 2004

 

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

  1. حلقة رائعة كالعادة
    الحظ الجميل قادني لبرنامجك الرائع دكتور محمد لكني وصلت متأخرًا فأرجوا أن لا يضيق صدرك بذلك وأرجوا أن أجد صدى لتساؤلاتي
    أعتقد أن الحياة هي الوجود فكل ما هو موجود هو حيّ
    فحيث أن الأحياء تختلف عن بعضها بميزات كالحركة والتفكير وغيرها لكن في النهاية شئ واحد فقط يجمعهم جميعًا وهو الوجود فأن تكون موجودًا فأنت حيّ
    وعلى هذا يمكن أن نعتبر حتى الإلكترون كائن حيّ
    ولكي لا نبني تعريف على آخر مبهم يجب أن نحدد ما هو الشئ الموجود وهنا سندخل في باب آخر

    1. إذا عرفت الوجود على أنها الحياة، فالبحث عن الحياة يصبح غير محدد، فإذا وجدنا كوكبا سنقول أنه هو حي، وإذا وجدنا صخرة على الكوكب سنقول أنها حية، وإذا وجدنا الماء سنقول وجدنا الحياة، وإذا نظرنا إلى الأجواء سنقول أنها حية، وهكذا.

      .تعريف الحياة على أنها كل شيء، هي كما لو أننا لم نعرف ما هي الحياة نهائيا.

      1. بالضبط هذا ما كنت أقصده أن الصخرة والماء والكوكب وكل شئ هو حي لكن بعضهم يمتلك ميزات لا توجد في غيره كالحركة والتنفس وغيرها لذلك البحث عن الحياة يجب أن يكون محدد فهل نبحث عن حياة بسيطة تركب الضوء فقط أو نبحث عن حياة ذكية تنشئ حضارات
        وكذك مجرد اكتشاف كوكب أو جرم يعد اكتشاف للحياة في تلك المنطقة وهذا ما كنت أقصده بالاستدلال بالآية الكريمة وليس أنه يمتلك وعي فمجرد وجود الشئ هو تسبيح ودلالة على مسبب وجوده

  2. أحب أن أضيف أمرً آخر إذ ربما يكون هذا هو المقصود من الآية الكريمة
    “وإن من شئ إلّا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم”
    فلفظ “شئ” مطلقة وعامة وغير محددة والله أعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى